Admin Admin
عدد المساهمات : 183 تاريخ الميلاد : 30/06/1997 تاريخ التسجيل : 21/12/2009 العمر : 27
| موضوع: زكريا الكاهن الخميس فبراير 04, 2010 10:01 pm | |
| مقدمة كان عدد الكهنة في أيام المسيح، كما يقولون، عشرين ألف كاهن، ويظهر بالعودة إلى الأصحاح الرابع والعشرين من سفر أخبار الأيام الأول أن داود قد قسمهم في خدمة الهيكل إلى أربع وعشرين فرقة، وكانت فرقة أبيا التي ينتمي إليها زكريا الكاهن، الفرقة الثامنة، وكانت كل فرقة تأخذ خدمتها، أسبوعًا كاملاً من صباح السبت إلى صباح السبت التالي، على مدار السنة، وكانت الفرقة توزع نفسها خلال هذا الأسبوع، على مختلف أعمال الهيكل، وتلقي القرعة على من يدخل إلى القدس ليقدم البخور هناك، وكانت العادة أن الكاهن - على هذا الأساس - لا يكاد يدخل القدس سوى مرة واحدة، في حياته على الأغلب، وإذ وقعت القرعة على زكريا في ذلك اليوم البعيد، رأى الرؤيا التي غيرت تاريخه وحياته، ومن عجب أن تكون هذه الرؤيا في هيكل الله، وكما كانت الرؤيا لأشعياء في الهيكل لها تأثيرها العجيب، فإن رؤيا زكريا كان لها التأثير العظيم الذي أدخله في سجل الخالدين، وما أكثر ما يرتبط بيت الله في حياة الناس برؤيا الحياة والمصير، فيهب الواحد منهم ليقول ما قاله يعقوب قديمًا : «ما أرهب هذا المكان ما هذا إلا بيت الله وهذا باب السماء» (تك 28 : 17)!!.. والآن فلنعبر إلى قصة الرجل، ونأخذ منها الكثير من عبر الحياة فيما يلي من صور وأوضاع!
زكريا من هو ربما لا نستطيع أن نفهم زكريا تمامًا إذا ذكرنا عصره. والعودة إلى تاريخ تلك الأيام قبيل ظهور المسيح، أشبه باجتياز الليل العميق الذي ينتظر ظهور الفجر، كانت طبقة الكهنة كما رأيناها في أيام ملاخي تزداد سوءاً قرنًا بعد قرن، وأين الكاهن في وضعه الصحيح، بما انتهى إليه الكهنة في أيام المسيح؟! لم تكن الخدمة الدينية عندهم سوى صور شكلية مظهرية تغطي الحقيقة البشعة وإذا أنت تغورت إلى الأعماق والداخل، فإنك لن تجد دينًا أو عبادة أو جماعات تصلى إلى الله، بل ستكشف أبشع اكتشاف يمكن أن تصل إليه في حياتك؛. إذ ترى أنك في أعماق الكهف أو مغابن الجبال. تجد نفسك في مغارة لصوص. إنه شيء تعس أبشع من أن يذكر. ولكنها كانت الحقيقة في أيام المسيح، وما تزال تظهر هنا وهناك في فترات متلاحقة متعاقبة من التاريخ، ومن الجدير بالذكر أن هذه الفترات على ما فيها من قسوة وظلام، تكون قبيل الفجر الذي يبعثه الله لينير الحياة، هكذا كانت في أيام زكريا الكاهن، إلى أن يأتي ابنه العظيم بين المولودين من النساء، ويندد بهذا الفساد صارخاً به في البرية بصوته المرعب، ليفزع الجميع، ولكنه ينادي بالحق الإلهي، دون خوف أو وجل!! في هذا التاريخ لا يمكن أن يترك الله نفسه بلا شاهد، بل يرسل في أعماق الليل البهيم نجومًا لامعة تسطع في الظلام، وتتلألأ في الدجى، وكان لزكريا ومعنى الاسم «الله ذكر» وزوجته أليصابات، بيت صغير، على ربي الجبال العالية في يهوذا أنا لا أعلم حظهما من الحياة المادية، وعلى أي مستوى كانت معيشتهما من وفرة المادة أو قلتها، فذلك شيء قد مر به كتاب الله دون أن يشير إليه، إلا أنه كشف لنا عن بيت وادع هانيء عظيم، لقد حرم هذا البيت مما كان يعتبره اليهودي أعظم بركة، إذ لم يكن للزوجين أولاد، مما قد يثير التساؤل أو الألم، أهو غضب من الله عليهما أن يحرمهما من الذرية، التي بها يمتد اسمهما بعد رحيلهما من هذه الدنيا، أو ليؤنس وحدتهما عندما يصبحان شيخين عجوزين يقعدان عن الحركة والحيوية، تلاحقهما صعفات الشيخوخة وأمراضها وأوصابها، على أي حال لم يكن هذان الزوجان هما أول من يتعرض لهذه المحنة، فقد تعرض لها الكثيرون قبلهما من خيرة الناس، وعلى رأسهم إبراهيم أبو المؤمنين عندما كانت سارة عاقرًا إلى وقت الشيخوخة، وعندما كانت راحيل عاقرًا، وأختها الكبرى تلد، وعندما كانت حنة مرة النفس، لأنها لا تنجب وضرتها تكيد لها وتضاعف من إحساسها بالحرمان، وما أكثر اللواتي أخفين نفوسهن عن عيون الناس كما أخفت إليصابات نفسها في الشيخوخة قبيل مجيء المعمدان!! على أي حال إن هذه المحنة التي لم تغير من حياة الشونمية العظيمة، وكانت مثالاً رائعًا رغم حرمانها الكبير، لم تفعل ذلك أيضًا، في حياة زكريا وأليصابات. إن علاقة هذين الزوجين بالله، ستبقى في الحرمان أو في العطاء، على حد سواء، علاقة البنوة لإله عظيم مجيد طيب، فإذا كان اسم زكريا معناه «الله ذكر» فإن الرجل كان يعلم يقينًا أن الله ذكره بالإحسان والمراحم قبل وبعد مجيء المعمدان، وأنه يرفل على الدوام في خيرات الله وبركاته الروحية والزمنية. وأن الاتكال على الله سيقوده إلى بركات متعددة، لعلها كانت واضحة أمام عينيه، ومن أخصها بركة الحياة الزوجية الممتلئة بدفء الحنان والحب والرقة، والقصة الكتابية ترينا اثنين سارا من مطلع الحياة حتى الشيخوخة كأجمل ما تكون العلاقة بين زوجين دون تأفف أو تذمر أو شكوى، حتى ولو حرماً من الأولاد، وضحكاتهم التي تملأ البيت سعادة، وتسد فراغ السكون الموحش، كما يـظهر في بيوت كثيرة ليس بها صغار يجرون هنا أو يلعبون هناك، أو يضجون في اللعب والضحك والبكاء كما يفعل عادة الأولاد في كل بيت! وفي الحقيقة إن أسعد إنسان هو الذي يحب الله لا لأنه يغنم أو يأخذ من هذا الحب ما يشتهي من عطايا أو بركات، بل لأنه يرى في مجرد العلاقة بالله، كل عطية وبركة وموهبة تامة في الحياة، فيحب الله لذاته، قبل أو بعد أن يأخذ ما يشتهي من الله، وكان زكريا من هذا الصنف من الناس، كان هو وزوجته بارين أمام الله، والمقصود بالبر هنا - في أقرب تعريف «البراءة» والبراءة بالنسبة للمتهم، عدم ثبوت الشكوى عليه، وبالنسبة للطفل، التصرف الخالي من الاحساس بالذنب، وكانت براءة زكريا بهذا المعنى المزدوج، فهو بريء من أي تهمة أو شكوى لأن الذبيحة التي يقدمها الله، والتي ترمز إلى المسيح، أعطته هذه البراءة الكاملة، وهو بريء بالاكتساب، وليس بالاصالة، هو بريء بالنيابة وليس بالخلو من الاثم والعيب، وهذا ما تفعله ذبيحة المسيح لكل واحد منا لأننا كلنا كغنم ضللنا ملنا كل واحد إلى طريقه والرب وضع عليه إثم جميعنا» (إشعياء 53 : 6) وبهذا المعنى القضائي كان زكريا باراً أو بريئًا،.. على أنه كان في براءة الطفل بالمعنى الأدبي، البراءة التي تفعل الشيء دون أن يكون قصدها الشر أو الخبث أو الحقد أو الضغينة أو الفساد أو ما أشبه، ونحن عندما ننظر إلى شخص طيب وادع جميل، كثيرًا ما نقول : إن له براءة الأطفال، وهكذا كان زكريا في حياته مع الله، وكما كان بارًا أمام الله، فإنه كان «بلا لوم» أمام الناس، كان هذا الكاهن غير ملوم، كان على الصورة التي يطلبها الله من الأسقف أو الشيخ، أن يكون «بلا لوم» ليست عليه شكاية صحيحة من أحد، وقد يختلف الناس معه في هذا أو ذاك من أمور الحياة، وقد لا يسيرون كما يسير، ولكنهم مع ذلك يشهدون له بالحياة المستقيمة الصحيحة غير الملومة! ومثل هذه الحياة لابد أن تضع نصب عينيها وتحرص على السلوك السليم : «سالكين في جميع وصايا الرب وأحكامه بلا لوم» (لو 1 : 6).. وربما يقصد بالوصايا، الجانب الأدبي، والأحكام الفرائض أو الجانب الطقسي، لم يتوان زكريا وأليصابات عن السلوك في الشريعة بشقيها الأدبي والطقسي كأفضل ما يفعل الإنسان بخوف الله وبكل أمانة!!
زكريا وصلاته جاء الملاك جبرائيل إلى زكريا ليقول : «لأن طلبتك قد سمعت» (لو 1 : 13).. وهي حقيقة يجدر أن نتوقف إزاءها قليلاً، لكي تؤكد أن أعظم الأحداث في العالم، جاءت نتيجة الصلاة، ولم تأت بسبب ذكاء الإنسان أو جهده أو جبروته أو كفاحه أو ما أشبه مما يظن الناس أنه يوجه أو يغير مسار القصة البشرية على الأرض! وفي عظة عن الصلاة قال بللي صاندي : «صلي إبراهيم من أجل ابن فأعطاه الله نسلاً مثل الرمل على شاطىء البحر، وصلى لأجل سدوم فسمع الله وأنقذ لوطًا، وصلى يعقوب لأجل لقاء طيب مع أخيه عيسو، وصلى موسى ليغفر الله للشعب، وصلى جدعون للتغلب على المديانيين، وصلى إيليا فنزلت نار الله استجابة للصلاة، وصلى يشوع فاكتشف عخان، وصلت حنة فولدت صموئيل، وصلى حزقيا فمات مائة وخمسة وثمانون ألفًا من جنود سنحاريب، وصلى دانيال فكمَّ الله أفواه الأسود وما كان شيء من هذا ليحدث بغير الصلاة!.... صلى لوثر فجاء الاصلاح، وصلى نوكس فاهتزت استكلندا، وصلى برنارد فخضع الهنود، وصلى ويسلى فاتجهت ملايين نحو الله، وصلى هويتفيلد فتجدد الألوف، وصلى فني فحدثت النهضة العارمة، وصلى تايلور فقامت ارسالية الصين الداخلية، وصلى مولر فجمع سبعة ملايين دولار لإطعام آلاف الجياع واليتامى أجل إن الناس تصلى. والله دائمًا يسمع!!». ولا شبهة في أن هناك ثلاث إجابات للصلاة، نعم أو لا أو انتظر، وقد يكون من السهل أن نفهم إجابة الصلاة «بنعم» ولكن «لا» قد تكون الإجابة المناسبة، أو قد يكون الجواب : «انتظر» حيث يقف المرء على محطة الانتظار إلى أن يصل قطار الله محملاً بالاستجابة! كانت البارجة الحربية تقف في عرض المحيط الأطلنطي على بعد مئات الأميال من شاطيء الولايات المتحدة، وتسلم أحد البحارة برقية جاء باللاسلكي تقول : «دونالد الصغير توفى بالأمس. الجنازة الأربعاء، هل تأتي. ماري» ونسى البحار واجبه وأغرورقت عيناه بالدموع، وإذ رآه القبطان استفسر عن سر بكائه، فأراه البرقية، وإذ قرأها قال له : أين تقطن. وكان الجواب : في كليفلند، أهايو ياسيدي! فأرسل القبطان عدة برقيات، ولم يلبث أن ظهر قارب حمل الرجل إلى سفينة أخرى لتحمله، واشتركت مواصلات متعددة في الولايات المتحدة ليظهر في الميعاد في الكنيسة في أثناء توديع الصغير! وإذا كان الإنسان في قدرته أن يفعل هكذا، فإن جنود الله وملائكته في السماء على استعداد دائم أن تفعل هكذا، في الميعاد المحدد المعين من الله! والسؤال إذاً، لماذا أبطأ قطار الله في حمل الجواب إلى زكريا، حتى ظن زكريا أن القطار لم يقم أبداً من محطة البداية، أو أن السفينة لم تقلع من الميناء لتسير في بحر الله العظيم، يجيب الكسندر هوايت على ذلك، بالقول إن السفينة كان عليها أن تنتظر سفينة أخرى، تسير هي في المقدمة، والأخرى على مقربة منها، إذ أن الصبي الذي سيولد، سيكون مرتبطًا بصبي أعظم، ورسالة الصبي الأول هي أن يكون خادمًا ومعلنًا عن مجيء الصبي الآخر، فقطار يوحنا أشبه بالقطار الذي يسبق قطار الملك ليعد لوصوله ومجيئه! ظن البعض أن زكريا انتهز الفرصة الوحيدة في عمره في هيكل الله عند تقديم البخور ليطلب طلبته القديمة، ولكن النص الكتابي واضح كل الوضوح بأن زكريا كان لا يتوقع إطلاقًا - وقد بلغت الشيخوخة منه ومن امرأته - أن يكون هناك ثمة رجاء في مجيء ابن في ذلك الوقت المتأخر من العمر، والكسندر هوايت يعتقد أن الخبر نفسه قد أثار ارتباكه إلى حد بعيد، وكأنما يقول للملاك : لا لقد جئت متأخرًا، ومتأخرًا جدًا، ومن ذا الذي يشرف على تربية الولد وتنشئته؟! لو أنك جئت بالخبر قبل ذلك بأربعين عامًا، لكانت بشارتك أعظم بشارة. وحديثك اشهى حديث إلى النفس، ثم كيف يمكن أن يكون هذا، وقد أصبحت شيخًا فانيًا وامرأتي كذلك! لقد أثار زكريا المشكلة التي يثيرها الضعف البشري عندما توزن الأمور بموازين العقل البشري! ولكن الله لا يمكن أن تنتهي طريقه بنهاية التفكير البشري أو حدود الذهن الإنساني! وقد عوقب زكريا، عندما أراد أن يوقف قدرة الله عند منعطف الذهن الإنساني القاصر! وكانت العقوبة غريبة في حد ذاتها، من المعتقد أنه لم يصب فقط بالبكم بل بالصمم أيضًا، وقد تعذر عليه أن يتكلم إلى الشعب، ولا إلى الذين تكلموا إليه يوم ميلاد ابنه، وتكرر القول : «فكان يؤميء إليهم وبقي صامتاً.. ثم أومأوا إلى أبيه ماذا يريد أن يسمى» (لو 1 : 22 و62) وإذا كان الإيماء الأول من جانبه دليلاً على عجزه عن الكلام، لكن الإيماء الثاني من جانب المخاطبين، ينهض دليلاً على تعذر التفاهم معه بالكلام، والحاجة إلى الإشارة التي يمكن أن تقوم مقام الكلام! على أن هذه العقوبة الظاهرة كانت في واقع الحال رحمة من الرب بالرجل، الذيي عاد إلى بيته، لتنضم إليه زوجته في نوع من العزلة إذ «أخفت نفسها خمسة أشهر قائلة هكذا قد فعل بي الرب في الأيام التي نظر فيها إلى لينزع عاري بين الناس» (لو 1 : 24 و25) كان على زكريا وامرأته أن يقضيا فترة خصبة في روح التأمل والشركة مع الله، وكان عليهما أن يصما آذانهما عن البشر والعالم، ليشكرا الله على العطية الجديدة المرتقبة، ولكي يتعلما في السكون والصمت حكمة أعلى وأسمى وأقوى! ومن المناسب على أي حال في قصة الحياة أن نربط بينها وبين التأملات التي لابد منها، ونحن على مقربة من التوقعات الكبرى التي تبدو لنا قريبة، وقد قيل إن رمسيس الثاني تعود أن يخرج من زمام الحياة، إلى غرفة كان يطلق عليها اسم «غرفة التأملات» ونحن في القرن العشرين أكثر حاجة إلى هذه الغرفة، التي فيها يمكن أن نتعلم الكثير من الدروس والعلوم والحقائق، ولعل الجبال التي كان يقطن فيها زكريا - والتقليد يقول إنها جبال حرمون - ساعدته كثيرًا على التأمل والسكون في حضرة الله!! ومن اللازم أن نتذكر - بالإضافة إلى ذلك - أن الله اعطي الجواب على سؤال زكريا القديم، وهو في هيكل الله، ومع أننا نستطيع أن نأخذ جواب الله في كل مكان، لكن ما أكثر ما يلتقي بنا الله بالجواب العظيم، في بيته المبارك، عندما نصرخ أمامه : «لتستقم صلاتي كالبخور قدامك ليكن رفع يدي كذبيحة مسائية» (مز 141 : 2) عندما نضع صلاتنا أمامه وننتظر!
زكريا وابنه
جاء المعمدان ابن الشيخوخة الطاعنة في السن، ومع ذلك فهو المعمدان الذي لم يقم له نظير بين المولودين من النساء، على ما سنتعرض له، عند الحديث عن شخصيته اللاحقة لشخصية أبيه، وليس الأمر الهام هو كم عدد الأولاد في البيوت، حتى ولو كانوا مثل غروس الزيتون حول المائدة، إذ أن الأفضل من ذلك هو النوع، إذ أن المعمدان الواحد أفضل من مئات وألوف من الأولاد العاديين، إن الشخص الهام العظيم، هو الذي يعادل جيشًا بأكمله، لقد جاء المعمدان في روح إيليا، وعندما صعد إيليا إلى السماء بكاه إليشع صارخًا : «يا أبي يا أبي مركبة إسرائيل وفرسانها» (2مل 2 : 12) كما أن ملك إسرائيل قال الشيء نفسه عن أليشع : «ومرض أليشع مرضه الذي مات به، فنزل إليه يوآش ملك إسرائيل وبكى على وجهه وقال يا أبي يا أبي يا مركبة إسرائيل وفرسانها» (2مل 13 : 14). ولا شبهة في أن البيت يتغير كثيرًا بوجود ولد واحد أم أولاد كثيرين، ومن المعتقد أن زكريا وأليصابات كانا في حاجة إلى يوحنا، كما كان يوحنا في حاجة إليهما، أما الأبوان فقد كانا في حاجة إلى الصبي الذي يزيل وحشتهما، ويؤنس شيخوختهما، ويشيع في المنزل جوًا من البهجة والجلال والسعادة، هيهات أن تكون مع عدم وجود الأولاد الصغار، ومن المؤكد أن الأولاد يعملون على اتساع أذهان الآباء وقلوبهم وصدروهم، ويعطونهم طعمًا من الحياة كان من المستحيل معرفته أو الوصول إليه بدونهم! وفي الوقت عينه من المؤكد أن المعمدان كان في حاجة، وهو يتدرج من مراحل الحياة وينمو مع الأيام، إلى أبوين مثل زكريا وأليصابات، لقد عاش الغلام فوق الجبال في بيت يكاد يكون معزولاً، وكان لابد له من هذه العزلة التي تحميه من التلوث بفساد الحياة مع العالم وضجيجها، إلى يوم ظهوره لإسرائيل،.. ومع أن الله يستطيع دون أدنى ريب أن يخرج من البيت الشرير أقدس الأبناء، لكن العادة عنده أن الابن المقدس يخرج من أحضان أبوين عرفا الله وعاشا في الشركة المقدسة معه، والولد سر أبيه، وعلى شبهه كما تذهب الأمثال، وهو يأخذ بالوراثة الشيء الكثير، ليس من الوجهة البدنية أو العقلية وفحسب بل من الوجهة الروحية أيضًا، وهنا يقول جيمس هاستينجر : «سعيد من له أو لها مثل هذا الأب أو الأم، ومثل هذا المهد الذي يتربى فيه في البيت، ولقد خرج أعظم المصلحين والمجددين من أمثال هذه البيوت، وتأثير الأم هنا على وجه الخصوص بعيد وعميق، إذ أنه يغلب أن الرجال العظماء والصالحين لعبت الأمهات الدور الهام في تربيتهم وتنشئتهم. وربما تفوقت في حياة الأولاد! وقد كانت التربية الدينية اليهودية خير مثال على ذلك. وربما كانت كلمات الفرد أورشايم خير ما يقال في هذا الصدد : «من المؤكد أن تربية الولد كانت تقع أولا على عاتق أمه، لكن الأب كان عليه أن يحمل العبء من الابتداء وإذا لم يكن على نصيب من المعارف الأولية، فإن غريبًا كان يتولى التعليم، وكان التعليم البيتي يبدأ - في أيام المسيح - عندما يبلغ الطفل الثالثة من العمر، وهناك ما يدعو إلى اليقين من أن الذاكرة كانت تدرب قبل ذلك التاريخ، على ما أصبح واضحاً من العقلية اليهودية نفسها، فالآيات الكتابية، وألفاظ البركة، والأقوال الحكيمة كانت تطبع في ذهن الصغير، يرددها لتسهل ما يرغبون في تلقينه إياه، وعند الخامسة كانوا يبدأون معه التوراة، ولكن ليس من سفر التكوين، بل من سفر اللاويين، إذ كانوا يعتقدون أن تاريخ الشعب أكثر من أن يستوعبه الصغير - في مثل هذه السن - شفويًا، وفي السادسة كانوا يرسلونه إلى المدرسة الابتدائية أو الأولية، ومن المتصور أن السيد أرسل إلى المجمع في ذلك الوقت، والهدف الأساسي أمام العلم الذي يتولى التعليم في هذه السن، كان لتهذيبه في الأخلاق إلى جانب إعطائه المعرفة العقلية، وفي العاشرة كان عليه أن يتعلم «المشنا» التي تحدثه عن التقاليد، وفي الخامسة عشرة يلزم أن يكون مستعدًا للتلمود، أو التفاسير الدينية التي توضع أمامه!! ومن المتصور أن يوحنا المعمدان لم يخرج عن هذه القاعدة في صبوته وشبابه الباكر!
ولعله من المناسب أن نذكر هنا أن مجيء المعمدان ومجيء المسيح كانا مصحوبين بالترنم والأغاني، وقد دون لوقا خمس أغاني، فالملائكة قد غنوا أغنية «المجد لله» والعذراء أغنية التعظيم «تعظم نفسي الرب» وأليصابات أغنية التطويب «مباركة» وسمعان أغنية «الاطلاق» أو «الاعتاق» وزكريا أغنية «البركة - مبارك الرب إله إسرائيل» وهذه الأغاني أضحت معروفة من اللفظ الأول في الأغنية، ويعنينا الآ أن نقف قليلاً من زكريا وهو يغني أغنية أمام ميلاد ابنه العظيم! لقد تنبأ زكريا بالروح القدس عن عظمة ابنه، وقد سبق الملاك أن كشف عن هذه العظمة أمام الله، وعن حياته كنذير معزول عن الآخرين لا يشرب خمرًا أو مسكرًا، بل من بطن أمه يمتليء بروح الله الذي يسيطر عليه ويقوده منذ البداية! والذي سيرد الكثيرين عن المعصية والشر، إذ سيرد قلوب الآباء إلى الأبناء والعصاة إلى فكر الأبرار ويهيء شعبًا مستعدًا للرب!
ومع أن زكريا تحدث بلغة العهد القديم، إلا أن هذه اللغة حملت في نسماتها عبق العهد الجديد وشذاه، وغنى الرجل شاكرًا الله على المسيح الآتي الذي سيخلص الشعب من أعدائه ومبغضيه، ويقيم قرن الخلاص كما تكلم بالأنبياء القديسين، وكان على ابنه أن يمهد لهذا المجيء، ويعد الطريق، على النحو العظيم الذي فعله بكل شجاعة وغيرة وقوة وأمانة.
ومع أن ابن الشيخوخة يكون - على الأغلب - ضعيف الجسد، وادع النفس، هاديء المسار، لكن المعمدان كان على العكس من كل هذا، إذ كان ملتهبًا شجاعًا ثائرًا! ومع أنه جاء متأخرًا في حياة الأب، إلا أنه كان عظيمًا وسباقًا وأفضل من ملايين الملايين من أبناء الشباب الذين يأتون في مطلع الحياة، وفضل القوة ورفعة الأيام!!.
| |
|