Admin Admin
عدد المساهمات : 183 تاريخ الميلاد : 30/06/1997 تاريخ التسجيل : 21/12/2009 العمر : 27
| موضوع: إرميا – الإصحاح الرابع الخميس فبراير 04, 2010 6:03 pm | |
| إرميا – الإصحاح الرابع
زينة العروس
أكثر عبارات هذا الإصحاح والأصحاحين التاليين ، منظومة فى العبرية شعرا ، لذلك يرجح أن تكون مجموعة خطب أو أقوال ألقاها النبى منظومة مقفاة ، ليدفع الشعب إلى التوبة ، ويحفظهم من الخطر المصلت على رقابهم .
إذ يطلب الله من شعبه الرجوع إليه ، كاشفا عن غيرته عليهم ، وحبه الشديد نحوهم ، يطلب إليهم ألا يرجعوا إليه بفسادهم ورجاساتهم ، وإنما أن يتزينوا بجمال داخلى كعروس سماوية مقدسة .
( 1 ) التوبة وسيلة التزين إنه يلح فى طلب رجوعها إليه ، لكنه يطلبها ترجع مقدسة له ، إذ يقول :
" إن رجعت يا إسرائيل يقول الرب ، إن رجعت إلى ، وإن نزعت مكرهاتك من ( فمك ) من أمامى فلا تتيه " ع 1 .
يطلب من عروسه أن تتخلى عن العبادة الوثنية ، وعن جحودها له . هذه هى المكروهات ... يبغضها الله لأنها تحتل قلب الإنسان ، وتغتصب ملكوت الله ، وتفسد الحياة الداخلية ، فتجعل النفس فى حالة تيه ، لا تعرف رسالتها ولا حتى تقدير الله لها .
يطالبها ألا تحلف بالآلهة الوثنية بل به ، تحلف بالحق والعدل والبر ( ع 2 ) .
يعلق العلامة أوريجينوس على القول الإلهى :
" وإن حلفت حى هو الرب بالحق والعدل والبر فتتبرك الشعوب به ، وبه يفتخرون " ع 2 ، قائلا : إننا نعلم أن الرب قال لتلاميذه فى الإنجيل :
" وأما أنا فأقول لكم : لا تحلفوا البتة " مت 5 : 34 .
لندرس هذه الآية ، ونضع الآيتين معا . ربما يلزمنا أن نبدأ بالقول : " احلفوا بالحق والعدل والبر " حتى إذا ما تقدمنا ونمونا فى النعمة بعد ذلك نستعد ألا نحلف البتة ، بل يكون لنا الـ " نعم " الذى لا يحتاج إلى تأكيد الأمور بالقسم ، ويكون لنا الـ " لا " الذى لا يحتاج إلى شهادة إثبات أن الأمر ليس هكذا .
( 2 ) ختان القلب إذ كانت يهوذا يعتزون بكونهم أهل الختان ... بينما قلوبهم غير مختتنة ، لهذا جاءت الوصية إليهم تلزمهم بالدخول إلى الأعماق ، ليمارسوا ختان القلب الخفى ، ويهتموا بالمجد الداخلى :
" لانه هكذا قال الرب لرجال يهوذا ولاورشليم :
احرثوا لانفسكم حرثا ولا تزرعوا في الاشواك.
اختتنوا للرب وانزعوا غرل قلوبكم يا رجال يهوذا وسكان اورشليم .
لئلا يخرج كنار غيظي فيحرق وليس من يطفئ بسبب شر اعمالكم " ع 3 ، 4 .
جاءت الدعوة هنا إلى رجال يهوذا وأورشليم ، يستحيل أن يرجى ثمر روحى الهي ممن يزرعون فى أرض قفر مملوءة بالأشواك الخانقة ، إنما يجب أن تشق بشفرة المحراث لتبكيت تربة القلب القاسية ... ففى مثل الزارع يقول السيد المسيح : " وسقط آخر على الشوك فطلع الشوك وخنقه " مت 13 : 7 .
إن كانت تربة قلوبنا مملوءة أشواكا فبصليب ربنا يسوع المسيح تحرث فتصير صالحة ، ينزع عنها الشوك بكونه الغرلة . هذا هو ختان القلب الذى يرتبط بالصليب ، ولا يختنق بأشواك هموم الحياة وملذاتها الباطلة .
من لا يقبل عمل الروح النارى فيه يسقط فى نار الغضب الإلهى ، أى يسقط فى مرارة تجلبها أعماله الشريرة عليه ، كما جلبت خطايا يهوذا السبى بكل مذلته ، هذا الذى يصفه إرميا النبى بصورة قاسية حتى لم يعد يقدر أن يحتمل المنظر ( ع 10 ) ...
كان صوت التحذير مستمرا حتى لحظات السبى ، إذ يقول :
" اخبروا في يهوذا وسمّعوا في اورشليم وقولوا ،
اضربوا بالبوق في الارض.
نادوا بصوت عال وقولوا :
اجتمعوا فلندخل المدن الحصينة.
ارفعوا الراية نحو صهيون.
احتموا.لا تقفوا.لاني آتي بشر من الشمال وكسر عظيم.
قد صعد الاسد من غابته وزحف مهلك الامم.
خرج من مكانه ليجعل ارضك خرابا.
تخرب مدنك فلا ساكن.
من اجل ذلك تنطقوا بمسوح
الطموا وولولوا ،
لانه لم يرتد حمو غضب الرب عنا.
ويكون في ذلك اليوم يقول الرب ،
ان قلب الملك يعدم وقلوب الرؤساء ،
وتتحير الكهنة وتتعجب الانبياء " ع 5 – 9 .
الله القدوس الذى يطلب عروسه مزينة بالقداسة ، إذ يراها تمارس الشر الذى يدفعها إلى السبى ينذرها ، ويبقى ينذرها حتى اللحظات الأخيرة ، فإنه يشتاق ألا تسقط فى مرارة السبى ... لقد أرسل من يخبرها ، ويضربوا بأبواق كلمته ، وينادوا بصوت عال ، لعلهم يتركون القرى الغير الحصينة ويدخلون إلى المدن الحصينة ويرفعون راية صهيون ، أى يدخلون بالتوبة إلى حصن إلهى ويحملون راية الكنيسة ، راية الحب الإلهى ، فيحتمون من الخطر .
الله يريدنا أن ندخل إلى مدينة حصينة ، فقد تحصنت كنيسة الله بالحق الذى فى المسيح يسوع ، هو نفسه حصنها ، كما يقول داود النبى فى المزمور :
" الرب صخرتى وحصنى ومنقذى " مز 18 : 2 .
انتم الذين كنتم فى تقدم ونمو احتموا فى صهيون ، " قد صعد الأسد من غابته وزحف مهلك الأمم " ع 7 .. هذا الأسد هو الذى ينبهنا عنه القديس بطرس ، قائلا :
" إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمسا من يبتلعه هو ، فقاوموه راسخين فى الإيمان " 1 بط 5 : 8 – 9 .
بما أن الأسد قد صعد إليك ليهددك ويخرب أرضك ، ألبس المسوح وإبك وتنهد وتضرع إلى الله بالصلوات ، فيهلك هذا الأسد ، وتتخلص أنت منه ، ولا تقع بين أنيابه .
( 3 ) ترك الأنبياء الكذبة كان قلب إرميا الرقيق يعتصر وهو يرى : " قد بلغ السيف النفس " ع 10 .
لقد ظنوا أن الله خدعهم وخدع مدينته المقدسة أورشليم ، ظنوه يتحدث على فم الأنبياء الكذبة ، القائلين : " يكون لكم سلام " ع 10 . إنها كلمات الأنبياء الكذبة المعسولة التى تعطى طمأنينة كاذبة ومؤقتة .
لترفض الكنيسة هذه الكلمات ، ولتتقبل كلمات الله النارية ، حتى وإن بدت قاسية ومرة ، لكنها هى نار إلهية قادرة أن تهيئها كعروس مزينة لرجلها ( رؤ 21 : 2 ) .
إلى يومنا هذا لا تزال النفس تنخدع لا بكلمات الأنبياء الكذبة بل بالذين هم فى داخلها ، الأفكار الخطيرة المخادعة ، لتستكين للخطية وتضرب بالشركة الإلهية والوصية عرض الحائط . مثل هذه النفس يبكى عليها السيد المسيح كما على أورشليم ، قائلا :
" إنك لو علمت أنت أيضا حتى فى يومك هذا ما هو لسلامك ، ولكن الآن قد أخفى عن عينيك ، فإنه ستأتى أيام ويحيط بك اعداؤك بمترسة ويحدقون بك ويحاصرونك من كل جهة ، ويهدمونك وبنيك فيك ولا يتركون فيك حجرا على حجر لأنك لا تعرفين زمن افتقادك " لو 19 : 42 – 44 .
بعدما يقدم الله تأديبه يحذر من العقوبة الأبدية ... فقد سمح لهم بالسبى ، لكن إن لم يرجعوا يسقطون فى دينونة أبدية ، إذ يقول : " في ذلك الزمان يقال لهذا الشعب ولاورشليم ريح لافحة من الهضاب في البرية نحو بنت شعبي لا للتذرية ولا للتنقية. ريح اشد تأتي لي من هذه.الآن انا ايضا احاكمهم " ع 11 ، 12 .
إنه يتحدث مع شعبه كإبنته " بنت شعبى " ، مؤكدا مدى اهتمامه بالشعب المنتسب إليه كإبنة له ، وإن كانت تقابل حبه واهتمامه بالعصيان .
( 4 ) إدراك خطة الله وقبول التأديب شبه السبى القادم بصعود أسد من غابته وزحف مهلك الأمم لتخريب الأرض ( ع 7 ) . مرة أخرى يشبهه بهبوب ريح عاصفة سريعة التدمير :
" هوذا كسحاب يصعد ،
وكزوبعة مركباته.
اسرع من النسور خيله ،
ويل لنا لاننا قد أخربنا " ع 13
إنها صورة مؤلمة لهجوم عنيف يثيره العدو .. يظهر كسحاب من يقدر أن يصعد إليه ليحاربه أو يمسك به ؟! وكزوبعة عاصفة قادمة من الصحراء من يقدر أن يصدها ؟! وكخيل له سرعة النسور من يقف أمامها ؟! .
ما يحل بنا من تأديبات إلهية هو بسماح إلهى ، إذ يسمح لنا أن نذوق عربون ثمر الخطية لعلنا نرجع عنها ونلتجىء إليه . لهذا يكمل حديثه ، مقدما علاجا شافيا للنفس :
" اغسلي من الشر قلبك يا اورشليم لكي تخلّصي.
الى متى تبيت في وسطك افكارك الباطلة " ع 14
بالتأديب أفلهى تدرك النفس حاجتها للغسل لكى تخلص ، أى لتنعم بشركة المجد ... فتحمل جمال عريسها وبهاءه عليها .
يعود فيذكرنا بأن التأديب قد أوشك حلوله قريبا جدا ، إذ بلغ صوت القادمين جبل دان وانتقل بسرعة البرق إلى جبل افرايم ( ع 15 ) ليبلغ أورشليم ذاتها . فلا مجال للتأخير بعد !
لا يليق بها أن تلوم الرب المؤدب أو تلوم أداة التأديب ، بل تلوم نفسها ، إذ يقول :
" لانها تمردت عليّ يقول الرب.
طريقك واعمالك صنعت هذه لك ،
هذا شرّك ، فإنه مر ، قد بلغ قلبك " ع 17 ، 18 .
بإرادتك اخترت الشر والعصيان ، فاحتلت المرارة قلبك عوض ملكوت الله المفرح !
( 5 ) قبول الأنبياء الحقيقيين إن كان يليق بالعروس أن ترفض كلمات الأنبياء الكذبة المعسولة لتدرك خطة الله لخلاصها من خلال التأديب ، فتغتسل لا بالمياة بل بدموع التوبة ، فإن النبى لا يقف ناقلا لكلمات الله فحسب وإنما كعضو فى العروس يئن ويتوجع لآلامها .
لا يمكننا أن نظن فى الأنبياء أو المعلمين أنهم ناقلون لكلمة الله فحسب ، ومعلنون عن مشيئته الإلهية ، ومصلون لأجل الشعب ، وإنما هم رجال الله المملؤون حبا ... أعضاء فى الجسد ، يئنون ويذوبون مع كل ألم ! لهذا يقول إرميا النبى :
" احشائي.احشائي !
توجعني جدران قلبي !
يئن فيّ قلبي.
لا استطيع السكوت ! ع 19 .
هنا يكشف النبى عن حبه الشديد لشعبه ، يتحدث لا كمعلم قاس ، ولا كمنذر فحسب ، وإنما يتكلم من خلال أحشائه الداخلية ، إنها تتمزق ، وجدران قلبه تتوجع ... أنينه الداخلى لا ينقطع ، وهو يرسم أمامه صورة بلوى تلحق بأخرى هذه التى ستحل بهم ! كم كان يود ألا يحمل إليهم هذا النبأ المر .
إذ حمل السيد خطايانا قال على لسان النبى : " كالماء انسكبت ، انفصلت كل عظامى ، صار قلبى كالشمع . قد ذاب فى وسط أمعائى " ( مز 22 : 14 ) ، يا لبشاعة الخطية !
" سمعت يا نفسي صوت البوق وهتاف الحرب.
بكسر على كسر نودي
لانه قد خربت كل الارض.
بغتة خربت خيامي وشققي في لحظة.
حتى متى ارى الراية واسمع صوت البوق " ع 19 ، 20 .
سمع النبى بنفسه لا بأذنيه ، بروح النبوة ، ووقف على أحداث الحرب القادمة كأنه حاضر ، يسمع ويرى أمورا لا تحتمل . إنه لم يطق أن يتطلع إلى ذلك اليوم الرهيب .
فى مرارة نفسه صرخ نحو الله : متى تنتزع هذه الكارثة ؟ إلى متى يرى الحرب ويسمع صوت البوق ؟ يجيبه الله قائلا بأن الأمر فى أيديهم هم ، فإن شرهم وغباوتهم وجهلهم للحق وإصرارهم على الفساد هو السبب ، ولا علاج إلا التوبة والرجوع إلى ، إذ يجيب النبى ، قائلا له :
" لان شعبي احمق.
اياي لم يعرفوا.
هم بنون جاهلون وهم غير فاهمين.
هم حكماء في عمل الشر ولعمل الصالح ما يفهمون " ع 20 .
( 6 ) الشبع والأستنارة يجيب إرميا النبى مؤكدا أن الجهل هو سبب الخراب الذى يحل بالشعب :
" نظرت الى الارض واذا هي خربة وخالية ،
والى السموات فلا نور لها.
نظرت الى الجبال واذا هي ترتجف .
وكل الاكام تقلقلت.
نظرت واذا لا انسان ،
وكل طيور السماء هربت.
نظرت واذا البستان برية ،
وكل مدنها نقضت من وجه الرب من وجه حمو غضبه " ع 23 – 26 .
التصوير الذى يقدمه لنا إرميا النبى هنا يذكرنا بما ورد فى الإصحاح الأول من سفر التكوين حين كانت الأرض خربة وخالية ، وكان الظلام سائدا ، ولم تكن هناك حياة !
يكرر النبى كلمة " نظرت " أربع مرات ، وكأنه تطلع إلى العالم بجهاته الأربع ( الشمال والجنوب والشرق والغرب ) ، فماذا رأى ؟ رأى شبه عودة إلى ما قبل الخلقة كما وردت فى سفر التكوين . عالم قفر لا يسكنه إنسان وبلا نباتات !
ما هى الأرض إلا جمهور الشعب الذى كرس طاقاته للعبادة الوثنية ورجاساتها ، فصاروا كأرض خربة .
وما هى السموات إلا القيادات الدينية والمدنية التى كان يجب أن تنير الطريق للعامة ، لكنها صارت كسموات بلا نور ، تبعث حالة من الضيق والكآبة .
وما هى الجبال إلا النفوس التى كان لها دورها القيادى الشعبى ، يظن الكل أنهم راسخون كالجبال ، فإذا بهم يرتجفون ...
اختفاء كل إنسان إشارة إلى اختفاء كل تعقل حكيم ، وهروب طيور السماء إشارة إلى فقدان الأمان ، وتحول البستان إلى برية علامة الخراب الكامل ...
الله الذى يطلب شبعنا واستنارتنا حين يؤدب يعطينا فرصة للرجوع إليه ، إذ يقول :
" خرابا تكون الأرض ، ولكننى لا أفنيها " ع 27 .
إنه يترك بقية يقدسها وينميها ... إنه لا يود أن يفنى ، بل أن يقدس ويبنى !
لئلا بقوله : " لا أفنيها " يتهاون الشعب ويستغل مراحم الله ، عاد ليؤكد التأديب القاسى : " من اجل ذلك تنوح الارض وتظلم السموات من فوق من اجل اني قد تكلمت قصدت ولا اندم ولا ارجع عنه " ع 28 ،
إنه لا يرجع عن تأديبه لهم ماداموا لا يرجعون إليه ...
( 7 ) ترك البر الذاتى إن كان الله يطلب شبع العروس واستنارتها ، فإنه يؤكد عجزها عن تحقيق ذلك بنفسها ، فهى فى حاجة إليه بكونه مصدر جمالها وشبعها واستنارتها :
" وانت ايتها الخربة ماذا تعملين ؟
اذا لبست قرمزا اذا تزينت بزينة من ذهب اذا كحلت بالاثمد عينيك فباطلا تحسّنين ذاتك فقد رذلك العاشقون " ع 30 .
إن ظنت نفسها غنية تلبس القرمز ، وإن خزائنها مملوءة بالجواهر الذهبية ، وجميلة تكحل عينيها بالإثمد ... تبقى مرذولة ليس من الله فقط بل حتى من عاشقيها ..
مسكين الإنسان الذى فى جهاده الروحى يتكىء على بره الذاتى ، يفقد كل جمال داخلى بل ويصير قاتلا لنفسه ، ويسمع التوبيخ الإلهى :
" لأنك تقول إنى أنا غنى وقد استغنيت ولا حاجة لى إلى شىء ، ولست تعلم أنك أنت الشقى والبائس وفقير وأعمى وعريان ، أشير عليك أن تشترى منى ذهبا مصفى بالنار لكى تستغنى ، وثيابا بيضا لكى تلبس فلا يظهر خزى عريتك ، وكحل عينيك بكحل لكى تبصر " رؤ 3 : 17 – 18 .
+ + + إرميا – الإصحاح الخامس
سر التأديب
إن كان الله قد دعى عروسه لكى تتجمل له بالزينة الداخلية ، ففى عتاب تسأله : " لماذا صنع الرب إلهنا بنا كل هذه ؟ " ع 9 لماذا يستخدم الله كلمته النارية المؤدبة بقسوة ؟
الله كعريس سماوى يتجاوب مع عروسه بروح الحوار المفتوح ، وكأب يوضح لأولاده سر معاملاته معهم حتى لا يسقطوا فى التذمر أو اليأس ، ولا يظنوا أن الأمور تسير اعتباطا ، إنما يليق بهم أن يتفهموا خطة أبيهم حتى يثقوا فيه ويرجعوا إليه .
( 1 ) لم يجد بينهم بارا واحدا إن كان الله هو الذى يتساءل أو نبيه إرميا عن إمكانية وجود شخص واحد يعمل بالعدل ، فإن الأمر حقا محزن للغاية .
" طوفوا فى شوارع أورشليم وانظروا واعرفوا وفتشوا فى ساحتها ،
هل تجدون إنسانا أو يوجد عامل بالعدل طالب الحق فأصفح عنها ؟! ع 1
حاول أبونا إبراهيم أن يتشفع من أجل سدوم وعمورة ولم يجد فيها عشرة أبرار تك 18 : 23 ، 24 .
أما هنا فالله يطلب أن يجد فى أورشليم إنسانا واحدا عاملا طالبا الحق لكى يصفح عنها . لم يجد إنسانا بارا بين القادة المدنيين والدينيين ولا بين العامة من الشعب !
كان يوسف الشاب الصغير بارا ، من أجله بارك الرب بيت فوطيفار ، ومن أجله أنقذ مصر كلها والبلاد المحيطة بها من المجاعة .
الله يطلب إنسانا لكى يصفح عن أورشليم . ترى من هو هذا إلا ابن الإنسان ، الله الكلمة ، الذى صار بالحق إنسانا لكى بدمه يكفر عن خطايا العالم كله ؟! " إن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار ، هو كفارة لخطايانا ، ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم أيضا " 1 يو 2 : 1 ، 2 .
( 2 ) لم يقبلوا التأديب الأولى
إن كانوا يعبدون الله الحى ويحلفون به ، لكن عبادتهم غير مقبولة ، ولا تبررهم .
أولا : لأنهم إذا ما حلفوا بالله الحى ، يحلفون بالكذب ( ع 2 ) .
ثانيا : كانوا غير مستقيمين ، يحلفون بالله الحى كما يحلفون بالآلهة الوثنية ، إذ يقول فى نفس الإصحاح : " كيف أصفح لك عن هذه ؟! بنوك تركونى بما ليس آلهة " ع 7 .
مما أحزن قلب الله أن الجميع – الفقراء والعظماء – قد أبوا قبول التأديب الإلهى ، وعوض الرجوع إلى الله ازدادوا قساوة ، فصارت وجوههم أكثر صلابة من الصخر .
" يا رب أليست عيناك على الحق ( الأمانة ) ؟
ضربتهم فلم يتوجعوا.
افنيتهم وابوا قبول التأديب.
صلّبوا وجوههم اكثر من الصخر.
ابوا الرجوع " ع 3 .
قبل أن يتحدث عن التأديب يؤكد النبى أن الله فى تأديباته كما فى لطفه يتطلع إلى الأمانة . يريد " الإيمان " الحى عاملا فينا ، لنكون أمناء حقيقيين ، فننعم بالحق .
بائسون هم الذين لا يتألمون من سياط الله ، ومطوبون هم الذين يتألمون منها .
من جهة رفض التأديبات الإلهية التى تعين النفس على تجميلها روحيا يرى النبى وجود فريقين :
1 – فريق دعاه " المساكين " ، هؤلاء ليسوا مساكين بالروح ، أى ليسوا متواضعين فينالوا ملكوت الله ( مت 5 : 3 ) ، إنما هم مساكين بسبب الجهل الروحى ، لا يدركون ما وراء التأديبات الإلهية من عمل إلهى ، يتذمرون على الضيق ولا يتوبون . هم هؤلاء يقول إرميا النبى : " إنما هم مساكين ، قد جهلوا لأنهم لم يعرفوا طريق الرب قضاء إلههم " ع 4 .
2 – فريق آخر دعاه " العظماء " : إذ شعر بمرارة من جهة غير المتعلمين روحيا انطلق إلى أصحاب المعرفة ، أى القيادات الدينية ، ليتحدث معهم ، فوجد الكبرياء عائقا عن قبولهم تأديبات الرب . وكأن المساكين يرفضون التأديب عن جهالة ، والعظماء عن كبرياء ..
" أنطلق الى العظماء واكلمهم لانهم عرفوا طريق الرب قضاء الههم.اما هم فقد كسروا النير جميعا وقطعوا الربط " ع 5
إذ رفضوا تأديبات الرب ، وأبوا الرجوع إليه سقطوا فريسة لعدو الخير ، الذى يشبه أسد الوعر ، وذئب المساء ، والنمر الكامن حول مدنهم ، قائلا :
" من اجل ذلك يضربهم الاسد من الوعر.
ذئب المساء يهلكهم.
يكمن النمر حول مدنهم.
كل من خرج منها يفترس ، لان ذنوبهم كثرت ، تعاظمت معاصيهم " ع 6 .
إذ ازداد الجهلاء والمثقفون فى عنادهم ومقاومتهم لإرادة الله لم يبق أمامهم إلا الهلاك الأكيد الذى لا مفر منه ، وذلك بواسطة :
الأسد : يستخدم الأسد كرمز لرعاية الله وحراسته لأولاده ( رؤ 5 : 5 ) ، كما يستخدم لغضبه ( إر 25 : 30 ) . استخدم أيضا كرمز لأبليس المفترس ( 1 بط 5 : 8 ) ، وللأنبياء الكذبة المهلكين ( حز 22 : 5 ) وللملك الغاضب ( أم 25 : 30 ) .
هنا : يضرب الأسد من الوعر ، يهلك بلا رحمة ، قادما من البرية !
الذئب : إشارة إلى حلول الهلاك ليلا وهم فى غير يقظة روحية .
النمر : المعروف عنه بالصبر لأصطياد فريسته ، إشارة إلى غفلة الخطاة ممن يحيطون بهم من أعداء وهم منغمسون فى خطاياهم .
( 3 ) أساءوا استخدام عطاياه
كشف لهم عن سبب تأديباته لهم ، إنه يعاتبهم :
" كيف اصفح لك عن هذه ؟!
بنوك تركوني وحلفوا بما ليست آلهة.ولما اشبعتهم زنوا وفي بيت زانية تزاحموا. صاروا حصنا معلوفة سائبة.
صهلوا كل واحد على امرأة صاحبه.
أما اعاقب على هذا يقول الرب ؟!
او ما تنتقم نفسي من امة كهذه ؟! ع 7 – 9
يرى العلامة أوريجينوس أن الإنسان إذ تسيطر عليه الشهوات يصير كالحيوانات العجموات ، يفقد روح التمييز ، بل وأحيانا يصير فى حالة أدنى منهم ، لأنه عندما تحبل أنثى الحيوانات تعرفن ألا تقتربن من الذكور .
ما أرهب هذا الإتهام ؟! هوذا الشعب الذى كان يجب أن يشهد لقداسة الله ويكون بركة لغيره من الشعوب قد صار فاسدا ، يشبع بخيرات الله فيزنى علانية ، محتقرا الوصية الإلهية ، ومتجاهلا حق أخيه ، إذ يشتهى إمرأة أخيه ! أما يستحق هذا الشعب العقاب ؟!
( 4 ) قبلوا كلمات المخادعين يعتبر الله قبولهم كلمات المخادعين وعدم تصديقهم إنذاراته على ألسنة الأنبياء الحقيقيين خيانة للرب نفسه ، تستحق التأديب كنار مطهرة ، لكنها ليست للفناء ، لذا يكرر تعبير " لا تفنوها " ع 10 و " لا أفنيكم " ع 18 .
يوجه الله كلامه للعدو المقبل ، معلنا أنه وإن سمح له بالتدمير والتخريب ، لكنه لن يسمح له بالفناء : " اصعدوا على أسوارها واخربوا ولكن لا تفنوها " ع 10 .
لقد تم تأديبهم ولم يأت عليهم الفناء إلا عند مجىء السيد المسيح " ..... هوذا بيتكم يترك لكم خرابا " لو 21 : 20 .
الله يتطلع إلى الكنيسة بكونها كرمه الخاص ، يسمح بالتأديب لكن ليس بالأبادة :
" انزعوا افنانها لانها ليست للرب.
لانه خيانة خانني بيت اسرائيل وبيت يهوذا يقول الرب.
جحدوا الرب وقالوا ليس هو ،
ولا يأتي علينا شر ولا نرى سيفا ولا جوعا " ع 10 – 12 .
لقد أنكروا الرب أو جحدوه بعدم تصديقهم تهديداته على لسان أنبيائه ... إنهم يقولون : " ليس هو " ، لا لأنهم ملحدون ينكرون وجوده ، لكنهم ملحدون بعدم قبولهم كلماته ، وعدم الثقة فى كلمات أنبيائه .
ماذا يفعل الرب بهم إذ قبلوا خداع الأنبياء الكذبة ولم يصدقوه ؟
أولا : إذ ينطق الأنبياء الكذبة بالباطل يصيرون هم باطلا ، كالريح الذى لا يدوم ، يهب فيختفى ... يصيرون خيالا .
" والانبياء يصيرون ريحا ، والكلمة ليست فيهم ، هكذا يصنع بهم " ع 13 . يختفون سريعا ويظهر بطلان كلماتهم لأن كلمة الرب ليست فيهم .
ثانيا : يجعل كلامه نارا فى فم نبيه إرميا ، تحرق الشعب كالحطب فتأكلهم ( ع 14 ) . لو أنهم كانوا ذهبا أو فضة أو حجارة كريمة لصيرتهم النار أكثر بهاء ونقاوة ، لكن لأنهم حطب وعشب وقش تحرقهم !
ثالثا : يسمح بسبيهم بواسطة أمة بعيدة قوية لا يعرفون لسانها ، ولا يفهمون ما تتكلم به ، أمة تتكلم بلغة غريبة ، لغة العنف والقسوة والأستعباد بغير حوار أو تفاهم !
سمات هذه الأمة تكشف عن طبيعة الخطية التى تسبى النفس :
أمة من بعد ( ع 15 ) : حين ترفض النفس وصية إلهها القريب إليها جدا ، وكلمته الساكن فينا ، نخضع للخطية الغريبة عن طبيعتنا والمعادية لنا .
- أمة قوية ، أمة منذ القديم ( ع 15 ) : الخطية خاطئة جدا وقتلاها أقوياء ، تحارب البشرية منذ القدم .
- أمة لا تعرف لسانها ( ع 15 ) : لا يمكن التفاهم معها ، قانونها الظلم والعنف وعدم التفاهم .
- جعبتهم قبر مفتوح ( ع 16 ) : غايتها التدمير والموت .
- كلهم جبابرة ( ع 16 ) : عملها الحرب الدائمة ضد أولاد الله .
- " يأكلون حصادك وخبزك الذى يأكله بنوك وبناتك ، يأكلون غنمك وبقرك ، يأكلون جفنتك وتينك " ع 17 عملها إفساد كل ثمر للنفس ( البنون ) وللجسد ( البنات ) ، تحطيم كل الإمكانيات ليعيش الإنسان فى جوع وحرمان حتى الموت .
- يهلكون بالسيف مدنك الحصينة ( ع 17 ) : يفقد الإنسان الملجأ والحصن ، ليعيش كطريد وهارب فى خوف دائم وقلق مستمر ، فتتحطم نفسه تماما .
هذا كله ثمرة قبول كلمات الأنبياء الكذبة المنادين بالسلام ، والناطقين بالناعمات كذبا وخداعا !
ما حدث مع الشعب قديما يحدث حاليا حيث ننصت إلى روح التهاون والأستهتار ، روح الأنبياء الكذبة ، فنسقط تحت سبى الخطية عوض التجاوب مع تأديبات الله التى تحثنا على التوبة والرجوع إليه .
( 5 ) فقدوا البصيرة الداخلية
إذ قبلوا كلمات الأنبياء الكذبة الناعمة سقطوا تحت التأديب الإلهى ، أى فى السبى ، وعوض أن يكتشفوا خطاياهم ويقدموا توبة صاروا فى عمى روحى يتهمون الله بالعنف والقسوة .
" ويكون حين تقولون : لماذا صنع الرب إلهنا بنا كل هذه ؟
تقول لهم : كما أنكم تركتمونى وعبدتم آلهة غريبة فى أرضكم هكذا تعبدون الغرباء فى أرض ليست لكم " ع 19 .
بعد أن شرح لهم عدالته بدأ يعاتبهم ، قائلا :
" اسمع هذا أيها الشعب الجاهل والعديم الفهم ،
الذين لهم أعين ولا يبصرون ،
لهم آذان ولا يسمعون " ع 21 .
لقد فقدوا البصيرة والقدرة على الأستماع : [ إش 6 : 9 ، مت 13 : 14 – 15 ] ، ليس من جهة تأديبات الرب فحسب وإنما من جهة الكلمة المتجسدة ، المسيا المخلص ، عوض الأرتماء فى أحضانه اتهموه أن به شيطان .
يعاتبهم الله قائلا :
" إياى لا تخشون يقول الرب ؟
أولا ترتعدون من وجهى أنا الذى وضعت الرمل تخوما للبحر ، وتعج أمواجه ولا تتجاوزها ؟ " ع 22 .
لم يضع الشعب لنفسه حدودا ، وعوض الطاعة كالبحار والرمال وكل الطبيعة صار لهم " قلب عاص ومتمرد ، عصوا ، ولم يقولوا بقلوبهم لنخف الرب إلهنا الذى يعطى المطر المبكر والمتأخر فى وقته ، يحفظ لنا أسابيع الحصاد المفروضة " ع 23 ، 24 .
( 6 ) اصطادوا الآخرين أحد أسباب التأديب أنهم نصبوا الشباك والفخاخ للآخرين لأصطيادهم حتى يغتنوا ويصيروا سمناء ، لكن شرهم لم يجلب عليهم إلا الغضب الإلهى والخسارة .
يلاحظ فى شرهم هذا الآتى :
شرهم ليس ثمرة ضعف بشرى ، أو تحقق بطريقة لا إرادية ، إنما جاء نتيجة خطة منظمة وإصرار مسبق ، إذ يقول : " لأنه وجد فى شعبى أشرار ، يرصدون كمنحن من القانصين ، ينصبون أشراكا يمسكون الناس " ع 26 .
- خططوا لأستعبادهم وتحطيم حرية الناس : " مثل قفص ملآن طيورا هكذا بيوتهم ملآنة مكرا " ع 27 .
- لا يقفون عند ارتكاب الشر وإنما يوجهون كل طاقاتهم لإصطياد الناس بمكر كى يسقطوهم فى الخطية .
" من أجل ذلك عظموا واستغنوا ،
سمنوا ، لمعوا ( أى مملؤون جمالا ) ،
أيضا تجاوزوا فى أمور الشر " ع 27 ، 28 .
ظنوا أنهم صاروا عظماء أصحاب سلطان ، أغنياء لا يعوزهم شىء ، مملؤون صحة ، ولم يدركوا أنهم فى الواقع جمعوا لأنفسهم شرا عظيما
- فقدوا كل رحمة وامتلأوا ظلما وقساوة قلب
" لم يقضوا فى الدعوى ، دعوى اليتيم ،
وقد نجحوا .
وبحق المساكين لم يقضوا " ع 28 .
( 7 ) تجاوبوا مع الرعاة فى الشر صار الجرح داميا لا علاج له حتى " صار فى الأرض دهش وقشعريرة " ع 30
اشترك الشعب مع القيادات الدينية فى هذا الشر " الأنبياء يتنبأون بالكذب والكهنة تحكم على أيديهم ،
وشعبى هكذا أحب " .
أحب الشعب الكذب والفساد إذ وجد الفرصة للملذات الجسدية والرجاسات جاءت تصرفات القيادات الشريرة متجاوبة مع قلب الشعب الفاسد .
+ + +
| |
|