Admin Admin
عدد المساهمات : 183 تاريخ الميلاد : 30/06/1997 تاريخ التسجيل : 21/12/2009 العمر : 27
| موضوع: إرميا - الإصحاح التاسع الخميس فبراير 04, 2010 6:07 pm | |
| إرميا - الإصحاح التاسع
مرثاة على الجميع
رأينا فى الإصحاح السابق كيف كاد قلب إرميا النبى أن يتمزق بسبب ما سيحل على شعبه من تأديبات قاسية مع إصرار الشعب على عدم التوبة . وها هو هنا يدعو إلى إقامة مرثاة على شعبه بسبب ما بلغ إليه من شكلية فى عبادته وحرفية فى حفظه للشريعة بلا ثمر روحى :
( 1 ) بكاء النبى الدائم " يا ليت راسي ماء وعينيّ ينبوع دموع فابكي نهارا وليلا قتلى بنت شعبي " ع 1 .
لم يكن أمام إرميا النبى الذى توجعت أحشاؤه فى داخله ، وكادت جدران قلبه أن تنهار إلا أن يبكى بمرارة ، ويود أن يبقى باكيا بغير توقف حتى يعمل روح الله لتبكيت الشعب واعترافهم بخطاياهم فيعودون إلى الرب .
كان بكاء الرجال علانية أمام الآخرين معيب ، ففى أفضل وضع يحسب علامة عن الضعف . لكن إرميا قبل أن ينسب إليه الضعف من أجل خلاص شعبه .
" يا ليت لي في البرية مبيت مسافرين ،
فاترك شعبي وانطلق من عندهم ،
لانهم جميعا زناة جماعة خائنين " ع 2 .
فى رقة شديدة حمل إرميا النبى أخطاء شعبه فى قلبه وفكره وكل أحاسيسه ، فتفجرت فيه ينابيع دموع لا تتوقف وتنهدات داخلية مرة . كان فى هذا رمزا للسيد المسيح ، العبد المتألم ، الذى حمل أحزاننا ، لكن شتان ما بين إرميا النبى والسيد المسيح .
( 2 ) عدم مبالاتهم بحالهم إن كان النبى قد كرس حياته للدموع من أجلهم لأنهم كانوا يجرون من شر إلى شر فى خيانة لعريس نفوسهم ، فإنهم من جانبهم لم يبالوا بدموعه ، بل حسبوه إنسانا متشائما يحطم نفسيتهم ، يستحق الطرد ، بل والموت ، وذلك لأنهم لم يدركوا ما هم عليه . ويقدم لنا النبى علتين لعدم مبالاتهم ، هما :
أولا : انشغلوا بالمكر :
" يمدون ألسنتهم كقسيهم للكذب لا للحق ،
قووا في الارض.
لانهم خرجوا من شر الى شر واياي لم يعرفوا يقول الرب " ع 3 .
إذ تحولت ألسنتهم إلى أداة للحرب ، لا لحساب الحق بل للكذب ، ظنوا أنهم أقوياء ، فانطلقوا فى الخبث من شر إلى شر ، ودخلوا فى دوامة الخطية ، ولم يجدوا فرصة للوقوف إلى حين ومراجعة النفس .
يكمل النبى حديثه عن خطورة المكر :
" احترزوا كل واحد من صاحبه ،
وعلى كل اخ لا تتكلوا لان كل اخ يعقب عقبا وكل صاحب يسعى في الوشاية .
ويختل الانسان صاحبه ولا يتكلمون بالحق.
علّموا السنتهم التكلم بالكذب وتعبوا في الافتراء " ع 4 ، 5 .
يدهش إرميا النبى من الإنسان الذى فى شره يرفض الصداقة مع الحق ، هذه التى تقدم له الراحة بلا تعب داخلى ، بينما يبذل كل الجهد ليتعلم الأفتراء . وكما يقول الأب غريغوريوس ( الكبير ) : [ إنهم يتعبون لكى يخطئوا . وبينما يرفضون أن يعيشوا بالبساطة ، إذا بهم يطلبون بالأتعاب أن يموتوا ] .
إنهم يرفضوا السكنى فى الله والوجود فى أحضانه ، ليستقروا فى قلب إبليس الكذاب والمخادع ، بهذا فقدوا معرفة الرب ، إذ قيل :
" مسكنك في وسط المكر.
بالمكر ابوا ان يعرفوني يقول الرب " ع 6
ماذا يعنى فقدانهم معرفة الرب ؟
عدم إدراكهم أن الله محب حتى فى تأديباته ، أما الأشرار فمبغضون حتى فى قبلاتهم .
" لذلك هكذا قال رب الجنود :
هانذا انقيهم وامتحنهم.
لاني ماذا أعمل من أجل بنت شعبى ؟
لسانهم سهم قتال يتكلم بالغش .
بفمه يكلم صاحبه بسلام ،
وفى قلبه يضع له كمينا " ع 7 ، 8 .
+ تحتمل جراحات الأعداء بأكثر سهولة من مداهنة الساخرين المملوءة مكرا .. فقدوا معرفتهم للرب بلسانهم الغاش ، الذى يكلم صاحبه بالسلام وهو يخطط له فى قلبه لهلاكه ، الأمر الذى تجسم بصورة بشعة فى يهوذا الذى كان تلميذا للرب ، وملتصقا به حسب الجسد ، لكنه لم يعرفه كرب ومخلص ، فأسلمه بقبلة غاشة .
+ لم يكن أحد مجرما فى حق واهب الحياة أكثر قسوة من ذاك الذى تقدم باحترام مملوء خداعا وتكريما فاسدا مقدما قبلة حب غاشة ، هذا الذى قال له الرب : " يا يهوذا أبقبلة تسلم ابن الإنسان ؟! لو 22 : 48 ... الأب يوسف
ثانيا : صاروا فى فراغ :
" على الجبال ارفع بكاء ومرثاة ،
على مراعي البرية ندبا ،
لانها احترقت ،
فلا انسان عابر ،
ولا يسمع صوت الماشية.من طير السموات الى البهائم هربت مضت.
واجعل اورشليم رجما ومأوى بنات آوى ،
ومدن يهوذا اجعلها خرابا بلا ساكن " ع 10 ، 11 .
السبب الثانى لعدم مبالاتهم بحالهم هو الدخول إلى حالة فراغ داخلى . فالنفس لا تشبع من الله خالقها ، وتحمله كسماء وعرش له . تفقد تقديرها لخلاصها ، ولا تدرك حقيقة مركزها ، فتعيش كمرعى احترق ، يصير خرابا لا يعبره إنسان ولا يسمع فيه صوت ماشية ، ولا يهيم فيه طير . إنما يسكنه بنات آوى .
لقد صعد إرميا على الجبال ، أى على شريعة الله ومن هناك تطلع إلى البرية ، فوجد مراعيها قد أحترقت بنيران الشهوات وحل بها الخراب ، فرفع صوته وبكى ، مقدما مرثاته على شعبه الذين دخلوا فى فراغ .
الشرير تتحول أورشليمه إلى رجم ( ع 11 ) ، عوض أن يكون قلبه مدينة الله المقدسة ، يصير أشبه بمكان مهجور دنس ، يشتم فيه رائحة الموت .
عوض أن تكون مرعى للغنم ، أى حظيرة الخراف المقدسة التى تضم شعب الله ، تصير مأوى لبنات آوى ( ع 11 ) ، وهى حيوانات أكبر من الثعلب وأصغر من الذئب ، تتسم بالوحشية مع المكر والخداع .
وتصير مدن يهوذا خرابا ، تحطم مواهب الإنسان وقدراته .
ثالثا : رفضهم الشريعة :
" من هو الانسان الحكيم الذي يفهم هذه ؟
والذي كلمه فم الرب فيخبر بها.
لماذا بادت الارض واحترقت كبرية بلا عابر ؟
فقال الرب : على تركهم شريعتي التي جعلتها امامهم ،
ولم يسمعوا لصوتي ولم يسلكوا بها " ع 12 ، 13 .
من يرفض كلمة الله النارية التى تحرق أشواك الخطية ، وتلهب القلب ، بنيران الحب الإلهى ، وتجعل منه خادما لله بنار سماوية ، تشتعل فيه نيران الشهوات ، فتحوله إلى برية خربة ! .
( 3 ) الدعوة لإقامة مرثاة على صهيون
لا يقف إرميا النبى وحده يرثى هذا الشعب ، وإنما يطلب الله منهم أن يدعو النادبات والحكيمات ليرفعن مرثاة ويذرفن الدموع عليهم :
" هكذا قال رب الجنود :
تأملوا وادعوا النادبات فيأتين ،
وارسلوا الى الحكيمات فيقبلن ،
ويسرعن ويرفعن علينا مرثاة ،
فتذرف اعيننا دموعا وتفيض اجفاننا ماء " ع 17 ، 18 .
يريد الله كل إنسان أن يأتى ويرثى صهيون ويبكى عليها . لعله يقول إن كانت عيوننا قد جفت وقلوبنا قد غلظت فلنلجأ إلى إخوتنا الروحيين ليسندوننا ، نتعلم منهم حياة التوبة ونطلب صلواتهم عنا . إن أمكننا أن ندعو كل الخليقة لكى تسندنا بالصلاة إلى الله الذى يعيننا بفيض نعمته .
يقول القديس يوحنا الذهبى الفم :
+ أيتها التلال نوحى ، أيتها الجبال اندبى !
لندعو كا الخليقة لتشاركنا بالوجدان بسبب خطايانا ... لنلجأ إلى الملك الذى هو من فوق . لندعوه فيعيننا .
فإن كنا لا نطلب عونا من السماء لا تكون لنا تعزية نهائيا فيما نحن قد سقطنا فيه .
" بل اسمعن ايتها النساء كلمة الرب ولتقبل آذانكنّ كلمة فمه ،
وعلّمن بناتكنّ الرثاية والمرأة صاحبتها الندب.
لان الموت طلع الى كوانا ،
دخل قصورنا ،
ليقطع الاطفال من خارج ،
والشبان من الساحات " ع 20 ، 21 .
أما علة الرثاء فهو إدراكنا أن الموت قد دخل إلى أعماقنا من خلال كوى الحواس ، النظر ، السمع ، التذوق ، الشم ، اللمس .... ليحطم قصورنا الداخلية المقامة لملكوت السموات .
يدخل الموت إلى قلوبنا ، يقتل الأطفال الذين يلعبون فى الخارج ، أى يبيد الأشواق المقدسة للشركة مع إلهنا ، أو البدايات الطيبة للحياة الفاضلة فى الرب التى لم تتأصل بعد فينا ، كما يقتل الشبان من الساحات ، أى يهلك حتى الأقوياء الذين كان يلزمهم أن يحاربوا روحيا فى الساحات .
( 4 ) الله واهب الحكمة والمعرفة
لئلا يظن الإنسان أن التوبة هى عمله الذاتى أو أنه بحكمته ومعرفته ينمو روحيا أكد الرب :
" لا يفتخرنّ الحكيم بحكمته ،
ولا يفتخر الجبار بجبروته ،
ولا يفتخر الغني بغناه ،
بل بهذا ليفتخرنّ المفتخر :
بانه يفهم ويعرفني اني انا الرب ،
الصانع رحمة وقضاء وعدلا في الارض " ع 23 ، 24 .
جاء هذا الحديث إجابة على التساؤل الذى وجه ضد كلمات إرميا النبى : ماذا ينقصنا ونحن نقتنى الحكمة والقوة والغنى ؟
هذه التسبحة تمجد حكمة الله وفهمه ومعرفته ، الأمور التى يحسبها غير الروحيين غباوة وجهالة ، متكلين على حكمتهم البشرية وخبرتهم الشخصية ومعرفتهم العقلية البحتة خارج دائرة الإيمان والأعلان الإلهى .
( 5 ) الدينونة بلا محاباة الله خالق الكل يدين الجميع بغير محاباة ، إذ قيل :
" ها ايام تأتي يقول الرب واعاقب كل مختون واغلف.
مصر ويهوذا وادوم وبني عمون وموآب ،
وكل مقصوصي الشعر مستديرا الساكنين في البرية ،
لان كل الامم غلف وكل بيت اسرائيل غلف القلوب " ع 25 ، 26 .
الخلفية وراء هذا النص هى العقيدة التى فى ذهن اليهود أن ختان الجسد يفصل بين من ينتسب للحق ومن ينتسب للباطل .
الآن الكل بحاجة إلى المخلص .
+ + +
إرميا – الإصحاح العاشر
العودة إلى الله
إن كان فى الإصحاح السابع يتحدث عن تقديس البيت الداخلى ، وفى الثامن عن عدم الإتكال على حفظ الشريعة حرفيا ، وفى التاسع يقيم مرثاة على ما وصلوا إليه ، ففى العاشر يتحدث عن العودة إلى الله .
( 1 ) ترك الوثنية الباطلة أول وسيلة للعودة إلى الله هو ترك الوثنية الباطلة ( ع 1 ، 2 ) ، رفض ما هو باطل وقبول الإله الحق ( ع 10 ) .
أبرز أن الله فريد ، وعظيم ، ومهوب ، سيد الطبيعة ، ورب التاريخ ، بينما عبادة الأوثان مجرد وهم ، حيث يرتعب عابدوها من ظواهر الكواكب السماوية كما من قطعة خشب من عمل أيديهم ، يقيمونها تمثالا يتعبدون له ، فى حقيقتها أشبه باللعين (خيال المقاتة ) التى يحركها الفلاح أينما أراد ليخيف الطيور ، وهى فى حقيقتها ليست إلا عصا جامدة ، يضع عليها الفلاح ملابس بشرية .
" هكذا قال الرب : لا تتعلموا طريق الامم ،
ومن آيات السموات لا ترتعبوا ،
لان الامم ترتعب منها. ..........
اما الرب الاله فحق ،
هو اله حيّ وملك ابدي.
من سخطه ترتعد الارض ولا تطيق الامم غضبه " ع 1 ، 10 .
جاءت كلمة " تتعلموا " فى العبرية بمعنى " تصيرون تلاميذا " ، وكأن العبادة فى الحقيقة هى تلمذة ، حيث يحمل التلميذ روح معلمه ، فمن يتتلمذ للباطل يحمل روح البطلان ، ومن يتتلمذ للسيد المسيح الحق ، يحمل روحه وحقه فيه .
عبادة الإنسان للأوثان تتمثل الآن فى التعبد للمال أو السلطة أو محبة المجد الباطل أو العلم أو حب الظهور ، متجاهلا احتياجات نفسه إلى التعرف على الله والألتصاق به ، يبحث بطريق أو آخر أن تشبع نفسه ، فيقيم فى هيكل الرب الداخلى آلهة غريبة عاجزة عن أن تشبع حياته وتنطلق بها إلى السموات .
لا وجه للمقارنة بين الله وبين الآلهة الأخرى ، إذ يقول : " ليس مثلك ! " ع 6
أ – " أما الرب الإله فحق " ع 10 ؛ من يلتصق به يصير حقا ولا يدخل إليه الباطل .
ب – " إله حى " ع 10 ؛ كائن نتعامل معه فى علاقة شخصية ، نجد فى الله الآب أبينا الذى يحملنا فى أحضانه ، ويتعامل معنا كبنين له ..
جـ - " ملك أبدى " ع 10 ، علاقتنا بالله ليست على مستوى زمنى مؤقت بل علاقة دائمة إلى الأبد . يملك فينا لا ليسيطر علينا وإنما ليقيمنا ملوكا ، يهبنا شركة سماته فنصير خالدين ونعيش معه فى مجده الملوكى إلى الأبد .
د – " اذا اعطى قولا تكون كثرة مياه في السموات ،
ويصعد السحاب من اقاصي الارض " ع 13 .
قوته ليست استعراضا لسلطانه ، وغنما لخير خليقته ، يهب النفس ( السماء ) والجسد ( الأرض ) كثرة مياة ، أى فيض روحه القدوس ( يو 7 : 37 – 39 ) ، ليحولنا فى مياة المعمودية من القفر إلى فردوس مثمر!
هـ - " صنع بروقا للمطر واخرج الريح من خزائنه " ع 13 .
أى قدم للإنسان كل احتياجاته المنظورة ( البروق والمطر ) وغير المنظورة ( الريح وخزائنه ) !
يبرق فينا فيهبنا روح الأستنارة ، ونكتشف أسرار حب الله وإمكانياته . ويهبنا عطية روحه القدوس كريح تهب حيث تشاء ، ولا نعرف من أين تبدأ ولا إلى أين تنتهى ( يو 3 : 18 ) .
يحدثنا مار يعقوب السروجى عن بروق الإستنارة قائلا :
[ المعمودية هى إبنة النهار ، فتحت أبوابها فهرب الليل الذى دخلت إليه الخليقة كلها !
المعمودية هى الطريق العظيم إلى بيت الملكوت ، يدخل الذى يسير فيه إلى بلد النور ! ] .
و – " من لا يخافك يا ملك الشعوب ؟! لأنه بك يليق " ع 7 .
إن كانت الشعوب قد قاومته وقبلت الأوثان آلهة عوضا عنه ، لكنه يبقى فى حقيقة الأمر " ملك الشعوب " .
هو " ملك العالم كله " ، أرادوا أو لم يريدوا ، نصرخ إليه كملك مفرح ، قائلين : " ليأت ملكوتك ! " ، أما المقاومون فيخشون ملكوته ويرتعبون من سلطانه ! .
ز – " من سخطه ترتعد الأرض ولا تطيق الأمم غضبه " ع 10 .
إن كان الله بالنسبة لمؤمنيه كله عذوبة ، يدخل معهم فى عهد أبوى ، ويقدم إمكانياته لخلاصهم وبنيانهم ، ففى عدله أيضا لا تستطيع الأرض أن تقف أمامه ، ولا تطيق الأمم غضبه !
لا يحتمل الأشرار الألتقاء معه ، لأنه كيف يمكن للظلمة أن تطيق النور ؟! أو للباطل أن يشترك مع الحق ؟!
حـ - الله هو المدافع عن شعبه بكونه " رب الجنود اسمه " ع 17 .
لذا يليق بشعبه كجنود تحت قيادته ألا يخافوا الآلهة الأخرى ، هذه التى " فى وقت عقابها تبيد " ع 15 .
ط – الله واهب القوة والحكمة والفهم لأولاده المقدسين فيه . للعلامة أوريجينوس تعليق جميل على العبارة : " صانع الأرض بقوته ، مؤسس المسكونة بحكمته ، وبفهمه بسط السموات " ع 12 .
يرى أن من بين سمات الله ثلاث : القوة والحكمة والفهم .
يهب القوة لجسدنا الترابى ( الأرض ) .
والحكمة لنفوسنا ( المسكونة التى يقطنها الثالوث القدوس ) .
والفهم لإنساننا الداخلى الذى على صورة آدم الثانى ( السموات ) .
ى – يهب الله نفوسنا أيضا من مياة الروح القدس ، إذ قيل " إذا أعطى قولا تكون كثرة مياة فى السموات " ع 13 ،
كأنه إذ يقيم ملكوته فى داخلنا يجعلنا سمواته التى تفيض بثمر الروح حتى على الآخرين
إن معرفة الله تقدم للنفس حكمة سماوية ، أما عدم التعرف عليه فيجعلها فى بلادة أو غباوة ، لذا يقول :
" بلد كل إنسان معرفته " ع 14 . يكاد كل الأنبياء يشيرون إلى هذه الخطية وهى عدم معرفة الشعب لله ( إش 1 : 3 ، هو 4 : 1 ، 6 ، ميخا 5 : 12 ، عا 3 : 12 ) . يقصد بالمعرفة هنا العلاقة الشخصية القوية والعميقة مع الله عقلانيا ، وعاطفيا ، وسلوكيا .
فى ختام مقارنته بين عبادة الله الحى وعبادة الأوثان يؤكد أن الله لا يغير على مجده كمن هو فى حاجة إلى من يتعبد له أو يمجده ، وإنما لأجلهم هم . فإن كانوا قد خانوه إنما خانوا أنفسهم ، لأنهم يحرمون أنفسهم من الله نصيبهم وأن يكونوا نصيبه ! إنهم فقدوا معرفة الله العملية فى حياتهم ففقدوا معرفتهم لأنفسهم كميراث الرب وجنوده . لهذا يوبخهم :
" ليس كهذه نصيب يعقوب، لانه مصور الجميع واسرائيل قضيب ميراثه، رب الجنود اسمه " ع 16 .
( 2 ) الخروج عن الأرضيات
يصور هذا القسم الهزيمة بواسطة العدو القادم بجيشه من الشمال كما لو حدث زلزال ( اضطراب ع 22 ) اهتزت له الأرض ، ويوضح تأثيره على الشعب ، والمفهوم اللاهوتى لهذه الهزيمة .
الرجوع إلى الله لا يكفى ترك الوثنية ، وإنما يتطلب انتزاع محبة الأرضيات من قلوبهم . الأرتباط بالأرض يحول الإنسان بكليته إلى أرض وتراب .
" اجمعى من الأرض حزمك أيتها الساكنة فى الحصار " ع 17 .
الإنسان الذى قبل بإرادته أن يكون أسيرا لمحبة العالم ، يخرج كما من العالم فى مذلة ، لا يحمل من كل ما اقتناه وتعبد له إلا القلة القليلة أو العدم ليخرج من العالم كأسير فى مذلة وعار !
" لانه هكذا قال الرب : هانذا رام من مقلاع سكان الارض هذه المرة ( فى هذا الوقت عينه ) ،
واضيق عليهم لكي يشعروا " ع 18 .
لقد انتهى وقت الإنذارات المتكررة ، وجاء وقت التأديب ، لهذا يلقى الله بشعبه فى السبى كمن يلقى بحجر من مقلاع ، كأنه بلا قيمة ، ويذهب بلا رجعة !
هذا هو حال كل نفس ترتبط بالأرض لا بخالقها ، يحملها الخالق كما بمقلاع ليلقى بها خارج الأرض التى أوجدها لأجلها ! من يتعبد للأرضيات عوض تقديم الشكر لواهبها يفقد حتى هذه الأرضيات !
تعاتب مملكة يهوذا المنهارة بنيها الذين حطموها وهربوا ، ورعاتها الذين صاروا فى بلادة ، قائلة :
" خيمتي خربت وكل اطنابي قطعت ،
بنيّ خرجوا عني وليسوا،
ليس من يبسط بعد خيمتي ويقيم شققي " ع 20 .
أخشى أن ينطبق علينا قول إرميا النبى ( ع 20 ) ، بعدما نصير فى الرب خيمة مقدسة نعود فنخربها ، ونقطع ربطها ، فيتحول البنون العاملون لحساب الخيمة إلى طاقات للهدم .
( 3 ) قبول تأديبات الرب " عرفت يا رب انه ليس للانسان طريقه ،
ليس لانسان يمشي ان يهدي خطواته ،
ادبني يا رب ، ولكن بالحق لا بغضبك لئلا تفنيني " ع 23 ، 24 .
كان إرميا النبى مقتنعا بأن الشعب كان يمكنه – إن أراد – أن يصحح خطأه ، لكنه لم يرد ذلك ، فصار خطأه بلا علاج .
يليق بنا أن نؤمن أن ذاك الذى خلق العالم لأجلنا من حقه أن يوجهنا ، ويملك علينا ، لا ليتسلط علينا ، وإنما لكى يشكلنا ، فنحمل صورته ، ونصير على مثاله ، ونتأهل أن نكون أولادا له ، نرث ملكوته ونشترك فى أمجاده الأبدية .
إنه يحزن على الإنسان الذى يرفض أن يقبل الله ميراثا له ، ويقدم حياته نصيبا للرب ، إنما يطلب غير الله نصيبا . إنه يعاتبه ، قائلا : " ليس كهذه نصيب يعقوب ، لأنه مصور الجميع ، وإسرائيل قضيب ميراثه ، رب الجنود اسمه " ع 16 .
كأن الله يؤكد أنه حتى فى تأديباته لا يطلب ما لنفسه بل ما لبنيان شعبه ومجده .
هذا وتستحق كل الأمم غير المؤمنة العقوبة كما تستحق مملكة يهوذا أيضا ذات العقوبة لأنها :
أ – لا تعرف الرب ... عرفت مملكة يهوذا الرب بفكرها لا بحياتها .
ب – لم تدع باسمه ... صارت مملكة يهوذا أيضا تدعو الحجارة والخشب آلهة لها .
جـ - تأكل أولاده ويفنوهم ويخربوهم ، إذ ثارت مملكة يهوذا على رجال الله واضطهدتهم + + + إرميا – الإصحاح الحادى عشر
العهد المكسور
فى الإصحاحات [ إرميا 11 – 20 ] تحتوى على منطوقات نبوية تكشف عن الرسالة الخاصة بهزيمة الجيش وما يلحق البلاد من دمار . غالبا نطق بها فى أيام الملك يهوياقين ( 605 – 598 ق . م . ) .
فى الإصحاحين 11 ، 12 يوضح الله سر غضبه على خطاياهم ألا وهو نقضهم للعهد معه . فهو يريد أن تكون معاملاته مع شعبه على مستوى الأب مع بنيه ، والعريس مع عروسه المحبوبة لديه ، الساكنة معه فى بيته ( ع 15 ) ، وليس كسيد آمر ناه .
يعتبر هذا الإصحاح مقدمة لهذا القسم ، فيه يعلن أن الله وشعبه قد التزما بعهد ، فيه يقدم الله نفسه إلها لهم ، يحميهم ويغنيهم ، لكن ليس بدون التزام من جانبهم .
( 1 ) كسر العهد الإلهى
إذ قارن فى الإصحاح السابق بين عبادة الله الحى والعبادة الوثنية عاد بذاكرتهم إلى العهد الإلهى الذى قطعه الرب مع شعبه ، حين دخل موسى فى شركة مع الله لمدة أربعين يوما ، وقد التحف بسحابة القداسة السماوية وهو على قمة جبل سيناء .
الآن بعد أن تمت المواعيد الإلهية ، وعاش الشعب فى أرض الموعد زمانا هذه مدته ، صدر عليهم الحكم الإلهى بتأديبهم ، وطردهم من الأرض ليعيشوا تحت السبى فى مذلة وعار ، لأنهم فضلوا عنه عبادة البعل . لقد أعطاهم فرصا كثيرة لعلهم يتوبون فلا يستوجبون السقوط تحت التأديب . أما وقد أصروا على عدم التوبة فحتما يؤدبون ، وإن صرخوا لا يسمع لهم ، لأن صراخهم غير صادر عن شعور بالخطأ ، ولا لطلب التوبة ، وإنما لمجرد إنقاذهم من التأديب . لقد أرضوا ضمائرهم وبطونهم بتقديم ذبائح لله ، لا للمصالحة معه وتجديد العهد معه ، ولا لإعلان حبهم له .
بعد قرون طويلة تكرر الأمر فى كنيسة كورنثوس حينما أساء الشعب استخدام الإفخارستيا وما يليها من وجبات الأغابى ، إذ قيل : " فحين تجتمعون معا ليس هو لأكل عشاء الرب ، لأن كل واحد يسبق فيأخذ عشاء نفسه فى الأكل ، فالواحد يجوع والآخر يسكر ، أفليس لكم بيوت لتأكلوا فيها وتشربوا ؟! أم تستهينون بكنيسة الله وتخجلون الذين ليس لهم ؟! 1 كو 11 : 20 – 22 .
" الكلام الذي صار الى ارميا النبي من قبل الرب قائلا :
اسمعوا كلام هذا العهد :
وكلموا رجال يهوذا وسكان اورشليم " ع 1 ، 2 .
يرى البعض أن النبى يشير هنا إلى الملك يوشيا والشيوخ الذين أكدوا ولاءهم للعهد المقام بين الله وشعبه على جبل حوريب بسيناء ، العهد الذى سجل فى درج ( كتاب ) ، ووجد فى الهيكل أثناء الإصلاح ، وقد ارتبطوا به وتعهدوا أن يتمموا كلماته المكتوبة ( 2 مل 23 : 3 ) . فالحديث هنا موجه إلى مندوبين من قبل الملك .
ما المقصود بـ " الكلام " هنا إلا " الكلمة " الذى كان عند الله منذ البدء ؟ - التى قال عنها يوحنا الإنجيلى : " فى البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله " .
رجال يهوذا هم نحن ، لأننا مسيحيون ، وجاء المسيح من سبط يهوذا . إذا كنت قد أوضحت من خلال الكتاب المقدس أن كلمة يهوذا يقصد بها السيد المسيح ، فإن رجال يهوذا فى هذه الحالة لن يكونوا اليهود الذين لا يؤمنون بالسيد المسيح ، وإنما نحن كلنا الذين نؤمن به .
يخاطب الكلمة " رجال يهوذا " و " سكان أورشليم " .
يتعلق الأمر هنا بالكنيسة ، لأن الكنيسة هى مدينة الله ، ومدينة السلام ، وفيها يتراءى ويعظم سلام الله المعطى لنا ، إذا كنا نحن أيضا أبناء سلام .
" اسمعوا كلام هذا العهد :
وكلموا رجال يهوذا وسكان اورشليم ، فتقول لهم هكذا قال الرب اله اسرائيل.
ملعون الانسان الذي لا يسمع كلام هذا العهد الذي أمرت به آباءكم "
من الذى يسمع أفضل لكلام العهد الذى أمر الله به الآباء ؟ هل الذين يؤمنون به ، أم الذين – بحسب الأدلة الموجودة عندنا – لا يؤمنون حتى بموسى حيث أنهم لم يؤمنوا بالرب ؟ يقول لهم المخلص : " لو كنتم آمنتم بموسى لآمنتم بى أنا أيضا ، لأنه تكلم عنى فى كتبه ، ولكن إن كنتم لا تؤمنون بكتاباته ، فكيف تؤمنون بكلامى ؟ " إذا لم يؤمن هؤلاء الناس بموسى ، أما نحن ، فبإيماننا بالسيد المسيح ، نؤمن أيضا بالعهد الذى " أقيم بواسطة موسى ، أى " العهد الذى أمرت به آباءكم " .
" ملعون الإنسان الذى لا يسمع كلام هذا العهد " ع 3 .
هزيمة الشعب ( أو إنهيار أورشليم ) لا تعنى أن الله قد نقض العهد ، وإنما هى إعلان إلهى عن عدم وفاء الشعب بشروط العهد ، فسقطوا تحت اللعنة .
إن كانوا قد سقطوا فى اللعنة بسبب عدم الطاعة للعهد ، فإن العيب ليس فى الناموس بل فى عدم ختان آذانهم ، أما العهد فليس ثقيلا ، والوصية ليست مستحيلة ، العهد ممكن وعذب ، يحمل الملامح التالية :
أولا : عهد حرية يقول : " يوم أخرجتهم من أرض مصر " ع 4 . أخرجتهم من العبودية ليعيدوا بفرح وبهجة قلب ( خر 5 : 1 ) . هو عهد خروج إلى حياة الحرية والفرح ، فلماذا يكسرونه ؟
ثانيا : عهد راحة
غاية هذا العهد أن يخرجهم كما من كور مصر ، من وسط النيران ليدخل بهم إلى ندى راحته . عتقهم من المسخرين العنفاء ، لا ليعيشوا فى رخاوة بلا عمل ، إنما لينالوا بركة العمل . بمعنى آخر خرجوا من كور المسخرين ليقبلوا العمل لحساب الله حسب إرادته ، لا كثقل يلتزمون به كرها ، بل بركة من قبل الله . إذ يقول : " واعملوا به حسب كل ما آمرتكم به " ع 4 ... يستبدل عمل السخرة المر بالعمل لحساب الله الممتع !
" يقول كلام هذا العهد الذى أمرت به آباءكم يوم أخرجتهم من أرض مصر من كور الحديد ، قائلا : اسمعوا صوتى " ع 4 ، 5 .
كور الحديد هى فرن ترتفع فيها الحرارة جدا لصهر الحديد ، الأمر الذى لا تحتاج إليه كثير من المعادن .
استخدم حزقيال النبى ذات التشبيه قائلا : " من حيث أنكم كلكم صرتم زغلا ، فلذلك هأنذا أجمعكم فى وسط أورشليم ؛ جمع فضة ونحاس وحديد ورصاص وقصدير إلى وسط كور لنفخ النار عليها لسكبها كذلك أجمعكم بغضبى وسخطى وأطرحكم واسبككم ، فأجمعكم وانفخ عليكم فى نار غضبى فتسبكون فى وسطها " حز 22 : 19 – 21 .
يشبه خروجهم من مصر كمن يخرج من النار ، من كور الحديد ، لا ليعيرهم بأنه خلصهم من النار ، وإنما بعد إخراجهم يطلب الدخول معهم فى العهد . كأن الله لا يستغل ضيقتهم ليأمر وينهى ، وإنما ليدخل معهم خلال الحوار الودى فى عهد أبوى مملوء حبا . فى هذا العهد يقدم نفسه إلها منسوبا لأولاده :
" فتكونوا لى شعبا ، وأنا أكون لهم إلها " ع 4 .
ثالثا : عهد يلتزم به الله بقسم لم يأت هذا العهد مصادفة ، ولا يمثل أمرا ثانويا ، لكنه موضوع يهم الله نفسه ، فيقيم نفسه شاهدا على العهد بقسم . لم يقم خليقة سماوية أو أرضية للشهادة ، ولا ائتمنهم على ذلك ، بل أقسم بذاته أن يحقق وعوده ، قائلا :
" لأقيم الحلف الذى حلفت لآبائكم .... " ع 5 ، ليبث فيهم روح الثقة أنه يحقق لهم وعوده الصادقة والأمينة .
رابعا : عهد مبادرة بالحب يقول : " مبكرا " ع 7 ، وكأن الله هو المبادر بالحب ، وهو الذى يبكر لتوقيع الميثاق ، إنه لا يتأخر فى تحقيق مواعيده . إن يتأخر فلأجل إعطائنا فرصة لرجوعنا إلى نفوسنا ، ومراجعتنا لحساباتنا . وعودتنا إليه حتى لا نهلك .
أمام هذا العهد الإلهى العجيب المملوء حبا وحنوا انحنى إرميا برأسه ، بل وبكل كيانه ليردد مع آبائه " آمين يارب " ع 5 . هذا ما نطق به الشعب حين سمع بركات الطاعة للوصية وقبول العهد ، ولعنات العصيان وكسر العهد ( تث 27 ) فى خضوع انحنى إرميا ليقبل من يد الله تأديباته لشعبه حتى إن بدت قاسية .
" فاجبت وقلت : آمين يارب " ع 5 .
لا نعجب إن رأينا الكنيسة المنتصرة قد اقتنت نفس الروح ، هذه التى تدربت على دروس الحب ، بل اقتنت فى داخلها مسيحها كلى الحب ، فإنه إذ دان الله الزانية العظيمة التى أفسدت الأرض بزناها وانتقم لدم عبيده من يدها ودخانها يصعد إلى أبد الآبدين ، صرخت قائلة : " آمين هلليلويا " رؤ 9 : 1 – 3 .
ما معنى كلمة آمين يارب ؟ أى : " آمين يارب أن الذى لا يسمع كلام هذا العهد يصير ملعونا " .
" فقال الرب لي.ناد بكل هذا الكلام في مدن يهوذا وفي شوارع اورشليم قائلا.اسمعوا كلام هذا العهد واعملوا به " ع 6
إننا ننادى بكلام الرب حتى للذين هم فى الخارج لندعوهم إلى الخلاص .
" لاني اشهدت على آبائكم اشهادا يوم اصعدتهم من ارض مصر الى هذا اليوم مبكرا ومشهدا قائلا :
اسمعوا صوتي.
فلم يسمعوا ولم يميلوا اذنهم ، بل سلكوا كل واحد في عناد قلبه الشرير.
فجلبت عليهم كل كلام هذا العهد الذي أمرتهم ان يصنعوه ولم يصنعوه " ع 7 ، 8 .
يعود بذاكرتهم إلى بدء لٌقامة العهد ، حيث خانه الشعب منذ اللحظات الأولى ، حين نزل موسى من الجبل يحمل معه لوحى العهد اللذين كتبهما الله بأصبعه . عوض السحابة المقدسة السماوية التى عاش فيها موسى أربعين يوما نزل إلى جو فاسد حيث وجد الشعب يتعبد للعجل الذهبى ، يسجدون له ويذبحون ( خر 23 : 7 ، 8 ) . أرتجفت يداه " وطرح اللوحين من يديه وكسرهما فى أسفل الجبل " ( خر 32 : 19 ) . هكذا أعلن موسى النبى عن خيانتهم للعهد منذ اللحظات الأولى ، وها هو إرميا يشهد على أبنائهم أنهم سلكوا طريق آبائهم : خيانة العهد .
" وقال الرب لي : توجد فتنة بين رجال يهوذا وسكان اورشليم.
قد رجعوا الى آثام آبائهم الاولين الذين ابوا ان يسمعوا كلامي ،
وقد ذهبوا وراء آلهة اخرى ليعبدوها ،
قد نقض بيت اسرائيل وبيت يهوذا عهدي الذي قطعته مع آبائهم.
لذلك هكذا قال الرب.هانذا جالب عليهم شرا لا يستطيعون ان يخرجوا منه ويصرخون اليّ فلا اسمع لهم " ع 9 – 11 .
مع عجزهم عن الهروب من الضيقة التى سقطوا فيها صرخوا لله لا للرجوع إليه بالتوبة ، وإنما لمجرد مساندتهم .. تركهم يلجأون إلى الآلهة الغريبة ليدركوا عجزها ، لهذا لم يسمع لهم ، ولا سمح لإرميا النبى أن يشفع فيهم .
" وانت فلا تصل لاجل هذا الشعب ولا ترفع لاجلهم دعاء ولا صلاة لاني لا اسمع في وقت صراخهم اليّ من قبل بليتهم " ع 14 .
سبق فطلب منه ألا يصلى لأجلهم ولا يلح عليه ( إر 7 : 16 ) . وقد رأينا أن الله يسر بأن يرى قلب إرميا متسعا بالحب ، وألا يكف عن الصلاة بلجاجة من أجل شعب الله . لكنه يريد تأكيد أن الأمر قد صدر بتأديبهم ، وهو لخيرهم وخلاصهم ، فلا يطلب النبى رفع التأديب عنهم .
( 2 ) ما لحبيبتى فى بيتى ؟ رفض الأستماع للشعب كما للنبى فى أمر ما لا يعنى رفضه لشعبه ، فهم بالنسبة له " المحبوبة " التى يريدها أن تقيم فى بيته ، لا أن تدنسه وتخربه . فى وسط هذا المر يعاتبها مذكرا إياها بمركزها الذى نالته خلال العهد الذى تحطمه بإرادتها ، قائلا لها :
" ما لحبيبتي في بيتي ؟
قد عملت فظائع كثيرة ،
واللحم المقدس قد عبر عنك.
اذا صنعت الشر حينئذ تبتهجين " ع 15 .
إن كنت تعتزين بالهيكل المقدس أنه فى أورشليم ، فإنك وأنت المحبوبة لى قد عملت فظائع كثيرة ، من ٌقامة مذابح للأوثان وأصنام ، وممارسة الرجاسات ، وتقديم الأطفال محرقات للأوثان . هذا من جانب ، ومن جانب آخر عوض تقديم الذبائح قدمتى لحما . إذ يقصد باللحم المقدس الذبائح التى تقدم فى الهيكل ، فإنها ليست فى عينيه ذبائح للمصالحة أو محرقات حب ، بل هى لحم للأكل ، كما سبق فقال : " ضموا محرقاتكم إلى ذبائحكم وكلوا لحما " إر 7 : 21 . وعوض التوبة عن هذه الشرور تبتهجين وتفتخرين بالشر !
يكمل عتابه لمحبوبته ، قائلا :
" زيتونة خضراء ذات ثمر جميل الصورة دعا الرب اسمك.
بصوت ضجة عظيمة اوقد نارا عليها فانكسرت اغصانها ،
ورب الجنود غارسك قد تكلم عليك شرا من اجل شر بيت اسرائيل وبيت يهوذا الذي صنعوه ضد انفسهم ليغيظوني بتبخيرهم للبعل " ع 16 ، 17 .
الضجة العظيمة هنا هى ضجة الجيوش المعادية المجتازة البلاد . إنه فى مرارة يؤدبها كما بنار .
كان تشبيه الشعب بزيتونة خضراء جميلة غرسها الله بنفسه مألوفا ، حيث كان شجر الزيتون مغروسا فى دائرة الهيكل . مصدر هذا التشبيه هو مزمور 52 : 10 ، وقد اقتبسه الرسول بولس فى رو 9 .
هذه التى غرسها الرب تحترق بنار لأنها اعتزلته ورفضت عمله فيها . وأرتكبت الشرور بعبادة البعل لإغاظة الرب .
( 3 ) اعترافات إرميا يدعو البعض هذه المراثى الشخصية لإرميا ( 11 : 18 – 12 : 6 ) " اعترافات إرميا " وإن كان البعض يراها " شكاوى إرميا " .
ينفرد إرميا النبى بين الأنبياء فى حفظه مجموعة من الصلوات تقدم نظرة غير عادية عن حياة النبى الداخلية ، كما لم يقدم أى سفر نبوى مجموعة من الشكاوى مثل هذا السفر . حقا لقد عانى الأنبياء من الشعب ، لكنهم لم يقدموا تفاصيل مثل إرميا .
يرى بعض الدارسين أن اعترافات إرميا بصيغة الفرد نطق بها باسم الشعب كله ، تعبر عن مرارة نفوسهم وسط الآلام ، إذ كانوا يستخدمونها فى العبادة الجماعية .
ويبدا إرميا النبى اعترافاته ، قائلا :
" والرب عرفنى فعرفت .
حينئذ أريتنى أفعالهم " ع 18 .
كشف له الرب عن المؤامرة التى دبروها لهلاكه ، كشفها له ذاك الذى سبق فأكد له وهو بعد ولد : " لا تخف من وجوههم لأنى أنا معك لأنقذك يقول الرب " 1 : 8 .
الله هو الفاحص القلوب والكلى ( ع 20 ) ، كأنه يقول إن كانوا فى خداع قد خططوا سرا لقتلى ، لكن فى الواقع الأمر خدعوا أنفسهم لأنهم لم يدركوا أن الله فضح خطتهم لى ، وما فعلوه ليس لهلاكى بل لهلاكهم .
لم يعرف إرميا أعمالهم فقط ، وإنما ما هو أعظم عرف مركزه الجديد ، أنه صار رمزا لحمل الله الذى يساق للذبح من أجل خلاص الغير ، فيترنم قائلا :
" وانا كخروف داجن يساق الى الذبح ،
ولم اعلم انهم فكروا عليّ افكارا ،
قائلين لنهلك الشجرة بثمرها ،
ونقطعه من ارض الاحياء فلا يذكر بعد اسمه " ع 19 .
كلمة " خروف " فى العبرية هنا استخدمت 116 مرة فى العهد القديم ، كلها فيما عدا خمس حالات استخدمت كذبيحة ، لذلك ترجم البعض كلمة " يساق إلى الذبح " أو " يساق كذبيحة " مع أن الكلمة العبرية تعنى الذبح العادى .
حسبوه حملا وديعا ، يقتلوه فلا يذكر بعد اسمه ، ولم يدركوا أنه رمز للسيد المسيح الذى بقتله يملك على القلوب ، ويمزق بصليبه الصك الذى كان علينا ويجرد الرياسات والسلاطين ويشهرهم جهارا ظافرا بهم فى صليبه ( كو 2 : 15 ) . صار رمزا للسيد المسيح الذى قيل عنه : " والرب وضع عليه إثم جميعنا ، ....... " إش 53 : 6 – 8
" ... ونقطعه من أرض الأحياء ، فلا يذكر بعد اسمه " ع 19 .
ظنوا أن بقتله يقطعونه ( السيد المسيح ) من أرض الأحياء ، فينساه العالم ، ولا يذكر اسمه بعد ، ولم يدركوا أنه القيامة واهب الحياة ، وأن بفعلهم هذا حول السيد أرضنا – وادى الموت – إلى أرض الأحياء .
رفع إرميا قلبه نحو الله ، قائلا :
" فيا رب الجنود القاضي العدل فاحص الكلى والقلب ،
دعني ارى انتقامك منهم ،
لاني لك كشفت دعواي " ع 20 .
يدعو الله " فاحص الكلى والقلوب " ع 20 ، أى يعرف شخصية الإنسان فى أعماقها ( الكلى ) ومشاعره ( القلب ) .
" لذلك هكذا قال الرب عن اهل عناثوث الذين يطلبون نفسك قائلين ،
لا تتنبأ باسم الرب فلا تموت بيدنا.
لذلك هكذا قال رب الجنود :
هانذا اعاقبهم.يموت الشبان بالسيف ويموت بنوهم وبناتهم بالجوع.
ولا تكون لهم بقية ،
لاني اجلب شرا على اهل عناثوث سنة عقابهم " ع 21 – 23 .
يحاول الأشرار منع أولاد الله من الشهادة للحق ، " قائلين : لا تتنبأ باسم الرب فلا تموت بيننا " ع 21 . وكما حدث مع القديسين بطرس ويوحنا إذ " دعوهما وأوصوهما أن لا ينطقا البتة ولا يعلما باسم يسوع ، فأجابهم بطرس ويوحنا وقالا : إن كان حقا أمام الله أن نسمع لكم أكثر من الله فأحكموا ، لأننا نحن لا يمكننا أن لا نتكلم بما رأينا وسمعنا " أع 4 : 18 – 20 ، هكذا حاول أقرباؤه – أهل عناثوث – منعه من الشهادة للحق ، وقد أصروا على قتله ، فإذا بهم يفقدون بنوهم وبناتهم بالسيف كما بالجوع !
+ + +
| |
|