Admin Admin
عدد المساهمات : 183 تاريخ الميلاد : 30/06/1997 تاريخ التسجيل : 21/12/2009 العمر : 27
| موضوع: إرميا – الإصحاح الثانى عشر الخميس فبراير 04, 2010 6:11 pm | |
|
إرميا – الإصحاح الثانى عشر
أعداء فى الداخل
كانت جدران قلب إرميا توجعه من أجل شعبه الذى خان العهد الإلهى ، وطلب قتل إرميا نفسه حتى لا يسمعوا لصوت الله . كان يشتاق أن يرجعوا إلى الله بالتوبة فيخلصوا مما سيحل بهم ، لكنهم عوض الإستماع إليه قاومه حتى أهل بيته .
(1 ) لماذا تنجح طريق الأشرار ؟ " أبر انت يا رب من ان اخاصمك.
لكن اكلمك من جهة احكامك.
لماذا تنجح طريق الاشرار؟
اطمأن كل الغادرين غدرا.
غرستهم فاصّلوا ،
نموا واثمروا ثمرا " ع 1 ، 2 .
تشبه هذه الكلمات ما ورد فى المزمور 37 ، حيث تعجب داود النبى كيف ينجح الإنسان الشرير فى طريقه ، لكنه عاد فاكتشف أنه كعشب يظهر قليلا ثم يجف ، أما البار كالشجرة يبدو جافا فى الشتاء لكن يحل الربيع ويظهر الثمر المتكاثر ، إذ يقول :
" لا تغر من فاعلى الشر ... فإنهم مثل العشب سريعا يجفون ، ومثل بقول الخضرة عاجلا يسقطون " مز 37 : 1 ، 2 .
بينما يطمئن الغادرون ويظنون أنهم ناجحون ومثمرون ونامون بقدرتهم وحكمتهم وتخطيطهم البشرى ، إذا بالنبى يؤكد سلطان الله حتى على هؤلاء الغادرين ، فإنه ما كان يمكنهم أن ينالوا هذا النجاح المؤقت إلا بسماح إلهى ، إذ يقول :
" غرستهم فاصّلوا ،
نموا واثمروا ثمرا " ع 2 .
مقابل هؤلاء المرائين الذين ينطقون بغير ما يبطنون يقدم النبى نفسه كإنسان ينطق بما يبطن ، ويحمل فى مظهره ما فى أعماقه ، وأن الله نفسه الفاحص الكلى والقلوب يشهد بذلك ، إذ يقول : " وانت يا رب عرفتني رأيتني واختبرت قلبي من جهتك " ع 3 .
إذ عاش إرميا مع الله بروح الإخلاص بعيدا عن الرياء استحق أن يكون موضوع معرفة الله ورؤيته . بمعنى آخر يتمتع إرميا بأن يعرفه الله معرفة المحبوب لديه والصديق الملاصق له ، وأن ينعم بنظرات حبه واهبة السلام .
إذ كان إرميا النبى نقيا فى أعماقه ، مخلصا فى تصرفاته ، ما يتكلم به بلسانه يكشف عما فى أعماقه ، لذا كان نقيا حتى فى غضبه . إن غضب يشهد للحق الإلهى ويطلب توبة الساقطين ونموهم روحيا ، كيف يكون ذلك وهو يقول :
" افرزهم كغنم للذبح ،
وخصصهم ليوم القتل " ع 3 .
فى شرهم طلبوا قتله ، فصار كخروف داجن يساق إلى الذبح 11 : 8 .
صار ذبيحة حب لأجل الله ولأجل إخوته ، فتحول شرهم إلى خير ، وها هو يطلب لهم أن يفرزوا للذبح .
ربما يتساءل البعض : لماذا يطلب النبى إرميا ذلك لشعبه ؟ .
تكشف كلمة الله عن الضعف البشرى ، فمع ما حمله النبى من حب إلا أنه فى لحظات ضعفه لم يحتمل الضغط المستمر ومقاومة الشعب له على مستوى القيادات الدينية ، كما على مستوى رجل الشارع ، بل حتى أسرته وأهل قريته خططوا للخلاص منه . إنه إنسان له ضعفاته ، أما ربنا يسوع الذى غفر لصالبيه فى أمر لحظات الألم ، فوهب مؤمنيه إمكانية الحب للأعداء والصلاة للمسيئين إليهم كما فعل اسطفانوس .
أصيب النبى بحالة إحباط بسبب طول أناة الله على الأشرار :
" حتى متى تنوح الارض وييبس عشب كل الحقل ،
من شر الساكنين فيها فنيت البهائم والطيور ،
لانهم قالوا لا يرى آخرتنا " ع 4 .
لم يكن يتعجل التأديب لينتقم لنفسه ، إنما لأنه رأى الأرض نائحة ، وعشب كل الحقل قد يبس ، والبهائم والطيور فنت . بمعنى آخر إذ يتحول الجسد ( الأرض ) من اللذة بالخطية إلى فقدان الراحة والدخول إلى حالة غم شديدة ، ويفقد الإنسان كل ثمر روحى حتى وإن كان كعشب صغير ، وتهلك طاقاته الجسدية ( البهائم ) والروحية ( الطيور ) ... يصير فى حاجة إلى تأديب إلهى يرده إلى صوابه ويحثه على التوبة .
( 2 ) كبرياء الأردن " ان جريت مع المشاة فاتعبوك فكيف تباري الخيل ؟!
وان كنت منبطحا في ارض السلام فكيف تعمل في كبرياء الاردن ؟!
لان اخوتك انفسهم وبيت ابيك قد غادروك هم ايضا.
هم ايضا نادوا وراءك بصوت عال ،
لا تأتمنهم إذا كلموك بالخير " ع 5 ، 6 .
يرى البعض أن العبارات السابقة هى إجابة الله لإرميا النبى على تساؤله :
" لماذا تنجح طريق الأشرار ؟ " .
كأن الله يعاتب إرميا النبى قائلا له : لماذا ضعفت أمام مقاومة الأشرار ؟
لقد دخلت المعركة المقدسة بقلب نقى ، لكنها فوق إدراكك ، لا تعرف أبعادها . انتظر لترى دورى ، ولا تتعجل النتائج فى حياتك ، وفى حياة الشعب الذى تراه الآن شريرا ومقاوما لك ولى . أنت الآن فى أرض السلام نسبيا ، إننى أسندك حينما تدخل فى الأحزان الشديدة التى تجتاح الأرض ككبرياء الأردن .
( 3 ) تدمير ميراث الله فى هذا الإصحاح والإصحاح التالى توجد سبع مجموعات من النبوات ، ست منها عن إنهيار أورشليم ، وواحدة ( 11 : 14 – 17 ) عن جيران يهوذا ، قيلت غالبا فى أيام يهوياقيم ( 609 – 598 ق.م. ) .
جاءت النبوة الأولى تركز على إسرائيل بكونه الميراث الخاص لله ، فمنذ البداية قيل :
" إن قسم الرب هو شعبه ، يعقوب حبل نصيبه " تث 32 : 9 .
قدم الله لهم أرضه – أرض الموعد – نصيبا ، وقبلهم هم نصيبا له . لكنهم أفسدوا أرضه فصاروا مستحقين الطرد منها ، وفقدوا سمتهم كميراث للرب . هكذا ربط بين الشعب والأرض إذ يقول :
" قد تركت بيتي ، رفضت ميراثي ،
دفعت حبيبة نفسي ( نفسى الحبيبة ) ليد اعدائها.
..... رعاة كثيرون افسدوا كرمي .... خربت كل الارض " ع 7 ، 11 .
[ يرى العلامة أوريجينوس أن المتحدث هنا هو الكلمة المتجسد الذى نزل إلى أرضنا ليدفع حياته فى يد الأعداء ذبيحة لخلاصنا ، إذ يقول : " قد تركت بيتى .... " إر 12 : 7 . لاحظ إذا أن ذاك الذى هو فى " صورة الله " فيلبى 2 : 6 جالس فى السموات ، وانظر إلى بيته الذى يفوق السموات ، لو أردت أن ترى أيضا ما هو أعظم وأعلى من ذلك ، فإن بيته هو الله " لأنى فى الآب " يو 14 : 11 .
" لقد ترك أباه وأمه " مت 19 : 5 ، وترك أورشليم السمائية وجاء إلى الأرض ، قائلا : " قد تركت بيتى .. رفضت ميراثى " .
كان ميراثه فى الواقع فى الأماكن التى توجد فيها الملائكة والصفوف التى توجد فيها القوات المقدسة ] .
لقد قدم توضيحات كثيرة يكشف بها الله لإرميا أنه هو موضوع الإضطهاد وليس أرميا :
أ – الأسد الذى يزأر فى البرية لا ليجد فريسة وإنما ليخون إلهه :
" صار لى ميراث كأسد فى الوعر ،
نطق على بصوته ،
من أجل ذلك أبغضته " ع 8 .
كثيرا ما يشبه الله بالأسد الذى يدافع عن شعبه ( عا 1 : 2 ) ، ودعى السيد المسيح :
" الأسد الذى من سبط يهوذا " ( رؤ 5 : 5 ) ،
وقيل عنه وهو على الصليب : " ربض كأسد " تك 49 : 9 . يتقدم المعركة كأسد قادر على تحطيم عدو الخير الذى يجول كأسد زائر ليبتلعهم فريسة سهلة ( 1 بط 5 : 8 ) . ويود الله أن يقيم من كل مؤمن أسدا لا يخشى عدو الخير ، بل يحمل روح إلهه ، روح القوة . أما أن يسىء استخدام طاقاته ومواهبه فيوجهها ضد الله ، عندئذ يحسب كأسد يزأر ضد من وهبه القوة ، ضد خالقه ومخلصه ، فيلقى بنفسه فى دائرة غضب الله . هذا ما عبر عنه بقوله : " من أجل ذلك أبغضته " ع 8 .
ب – ضبعة نهمة على فريستها ، إذ يقول : " جارحة ضبع ميراثى لى " ع 9 . هجموا على ميراثى وافترسوه ! حسبوه جثة ميتة ! .
ج – طيور جارحة تجتمع حول الفريسة معا كما فى عيد مفرح !
" الجوارح حواليه عليه .
هلم أجمعوا كل حيوان الحقل ،
إيتوا بها للأكل " ع 9 .
فى التشبيهات الثلاثة يبرز الله كيف تحول شعبه الذى يدعوه " حبيبة نفسه " إلى طبيعة مفترسة نهمة تتهلل بالشراسة والأفتراس ، تحتقر ميراثه وتحسبه جثة ميتة لا تستحق إلا الأكل ! ما أبشع جحود الإنسان لله خالقه ومخلصه ، ولعطاياه الفائقة ! .
" زرعوا حنطة ، وحصدوا شوكا ،
أعيوا ولم ينتفعوا ،
بل خزوا من غلاتكم من حمو غضب الرب " ع 13 .
زرعوا حنطة ، لأن معهم شريعة الرب ، كلمة الله الحية ، لكنهم حصدوا شوكا لأنهم لم يقدموها بالمفهوم الروحى ، ولا عاشوا فيها ، بل تمسكوا بالحرف ، فعوض الحنطة حصدوا شوكا .
+ + +
إرميا – الإصحاح الثالث عشر
مثلا المنطقة والزق الممتلىء خمرا
طلب الله من إرميا النبى أن يمارس عملا ما كوسيلة إيضاح يقدم بها درسا للشعب كما لإرميا نفسه ، كما قدم له مثلا كان شائعا وسط اليهود ، من خلالهما يرد الله على تساؤل إرميا السابق : لماذا تنجح طريق الأشرار ؟ ( 12 : 1 ) ، وفى نفس الوقت يوضح أن ما سيحل بالشعب من تأديب علته شرورهم ، خاصة الكبرياء ، مؤكدا المبدأ الكتابى :
" قبل الكسر الكبرياء " .
استخدام العمل الرمزى لم يكن بالأمر الغريب بالنسبة لإرميا ، وقد اعتاد الشعب فى العهد القديم أن يسمع صوت الله خلال أعمال رمزية .
وجد إرميا متاعب وهو يجارى المشاة ، الان ها هو يبارى الخيل ( 5 : 12 ) ، يقف أمام الملك والملكة ويعلن مرثاة الرب عليهما ، متحدثا عن فقدان مملكة يهوذا مجدها .
( 1 ) منطقة من كتان
" هكذا قال الرب لي :
اذهب واشتر لنفسك منطقة من كتان وضعها على حقويك ،
ولا تدخلها في الماء.
فاشتريت المنطقة كقول الرب ووضعتها على حقوي.
فصار كلام الرب اليّ ثانية قائلا :
خذ المنطقة التي اشتريتها التي هي على حقويك ،
وقم انطلق الى الفرات واطمرها هناك في شق صخر.
فانطلقت وطمرتها عند الفرات.كما امرني الرب.
وكان بعد ايام كثيرة ان الرب قال لي :
قم انطلق الى الفرات وخذ من هناك المنطقة التي امرتك ان تطمرها هناك.
فانطلقت الى الفرات وحفرت واخذت المنطقة من الموضع الذي طمرتها فيه.
واذا بالمنطقة قد فسدت لا تصلح لشيء.
فصار كلام الرب اليّ قائلا :
هكذا قال الرب.هكذا افسد كبرياء يهوذا وكبرياء اورشليم العظيمة " ع 1 – 9 .
كيف أمكن للنبى أن يسافر من أورشليم أو عناثوث إلى نهر الفرات بالعراق ذهابا وغيابا مرتين حيث تبلغ المسافة بينهما حوالى 350 ميلا فى الشمال الشرقى من عناثوث ، أى تقطع الرحلتين معا حوالى 1400 ميلا ؟ خاصة وأنه لا توجد هناك صخور يخفى فيها المنطقة ، إنما يلزمه أن ينطلق إلى شمال كركميش ليجد صخورا .
يرى البعض أن كلمة هنا ربما يقصد بها ينبوعا فى وادى فرح يدعى " عين فرح " يبعد حوالى أربع كيلومترات شمال شرقى عناثوث ( يش 8 : 23 ) ، فإن نطق كلمة " فرح " والفرات متشابه . وحسب آخرون أن الحديث هنا رمزى لم يمارس عمليا ، أو أنه مجرد رؤيا .
يلاحظ فى هذا المثل الآتى :
أولا : يشبه الله شعبه بمنطقة جديدة مشتراه يلصقها النبى على حقويه دون أن يمسها ماء . وكما يقول الله نفسه :
" لانه كما تلتصق المنطقة بحقوي الانسان هكذا الصقت بنفسي كل بيت اسرائيل وكل بيت يهوذا يقول الرب ليكونوا لي شعبا واسما وفخرا ومجدا ولكنهم لم يسمعوا " ع 11 .
هكذا يقتنى الله لنفسه الكنيسة – إسرائيل الجديد – لتكون منطقة ملتصقة به أو ثوبه الذى يرتديه . هذا الثوب الذى صار أبيضا كالنور فى لحظات تجلى رب المجد ( مت 17 : 2 ) ، لأن بداخله شمس البر !
مسيحنا يود أن يسكن فينا كثوب له ، فينيرنا ويقدسنا ، نشهد لبهائه ومجده وقداسته !
ثانيا : يقول العلامة أوريجينوس :
[ حينما يضع النبى المنطقة على حقويه يمثل الله الذى يحمل شعبه ،، ( حزقيال 1 : 27 ) ] .
ثالثا : طلب الله من إرميا أن يشترى لنفسه منطقة جديدة من الكتان ، وأن ينطلق بها إلى الفرات ويطمرها .
ماذا كانت مشاعر إرميا حين وجدها قد فسدت ؟! بلا شك كانت نفسه مرة ، اشتراها بفضته ، وألصقها بحقويه إلى لحظات ، وتكلف مشقة السفر إلى الفرات أكثر من مرة . وأخيرا وجدها فاسدة لا تصلح لشىء ! إنها ثمينة فى عينيه ! فكم بالأكثر تكون النفس ثمينة فى عينى الله الذى اقتناها لنفسه بعد أن خلقها واوجد كل العالم لأجلها ، ولأجل خلاصها أرسل الناموس والأنبياء وأخيرا تجسد الكلمة الإلهى وقدم دمه الثمين ثمنا لتجديدها وخلاصها ؟! أدرك إرميا أنه ما كان ينبغى عليه أن يتساءل حتى فى داخل نفسه : لماذا تنجح طريق الأشرار ؟! إنها نفوس ثمينة هلكت ، يترقب الله خلاصها بكل وسيلة .
رابعا : إن كان الله قد جعل شعبه كمنطقة تلتصق به ، فإن المنطقة تضم بقية الملابس معا حول حقوى الشخص . وكأن الله يريد من أولاده الذين يلتصقون به أن يضموا الآخرين معا فى الرب . غاية الله من اختيار شعبه أن يجتذبوا كل الأمم ليصيروا ثيابا ملتصقة بالرب .
خامسا : طمر المنطقة الجديدة فى التراب يكشف عن افساد إمكانياتنا ومواهبنا بطمرها ، أى عدم استخدامها لحساب ملكوت الله .
اخفاء المنطقة فى صخرة يشير إلى حالة الرعب التى حلت بيهوذا ، فعوض الأشتياق نحو الألتقاء به كمخلص وعريس للنفس يهربون منه فى خوف ، طالبين الأختفاء فى شقوق الصخور .
العجيب أن السيد المسيح يقدم نفسه " الصخرة " التى فيها نختفى ونحتمى ، حيث فيه نتبرر ولا ندان ! نسمعه يقول :
" هوذا عندى مكان فتقف على الصخرة " خر 33 : 20 – 21 .
هناك نتمتع مع موسى النبى برؤية بهاء المجد الإلهى .
سادسا : ربما قصد نهر الفرات على وجه الخصوص ليشير إلى خطر الكلدانيين روحيا وماديا على شعب الله ، إنه يوضح كيف يفسد السبى البابلى هذا الشعب ويحطمه .
سابعا : أمره الله ألا يضع المنطقة فى الماء ، ليوضح رفض الشعب التطهير ، أو عدم قبولهم المعمودية التى يتمتعون بالموت والدفن مع المسيح ونوال الحياة الجديدة المقامة . إن كانت المنطقة من الكتان تشير إلى النقاوة ، لكن هذه النقاوة تفسد بدون الشركة مع المسيح المصلوب القائم من الأموات والتمتع بعمل الروح القدس النارى غافر الخطايا .
( 2 ) مثل الزقاق الممتلىء خمرا " هكذا قال الرب اله اسرائيل :
كل زق يمتلئ خمرا " ع 12 .
رأينا فى تفسير إرميا 12 : 6 . أن الكل كانوا يسخرون بإرميا ، ينادون وراءه بصوت عال ( أو يسخرون به قائلين : يا ممتلىء سكرا ) . هذا هو منطق العالم أن كلمة الرب أو الوصية هى أفيون الشعوب ، كما أدعى الشيوعيون ...
لهذا حينما يقول الرب : " لا أشفق ولا أترآف ولا أرحم من إهلاكهم " ع 14 ، إنما يعنى أنه يسلمهم إلى شهوة قلوبهم ، ويتركهم لإرادتهم الشريرة فيتحطمون ، لأن الله يقدس الحرية الإنسانية ولا يلزم أحدا بالشركة معه .
الخمر هنا لا يشير إلى فرح الروح القدس ، وإنما إلى فاعلية الخطية فى حياة الجماعة كما فى قلب الإنسان . فكما يشار إلى السيد المسيح بالأسد الخارج من سبط يهوذا بكونه الملك الذى يخلص شعبه هكذا يشبه إبليس بالأسد من أجل شراسته وطبيعته المفترسة .
هكذا الخمر يشير إلى ثمر الروح القدس المفرح كما يشير إلى ثمر الخطايا المحطم .
" فتقول لهم هذه الكلمات ، هكذا قال الرب اله اسرائيل :
كل زق يمتلئ خمرا ،
فيقولون لك أما تعرف معرفة أن كل زق يمتلىء خمرا ؟! " ع 12
يرى البعض أن المثل الشعبى : " كل زق يمتلىء خمرا " ع 12 يعنى أن مملكة يهوذا كالزق لا عمل له إلا أن يمتلىء بخمر غضب الله ! هنا الخطورة ، حيث يفقد الإنسان كل رسالة إيجابية خيرة ليصير كأنه جاء إلى العالم ليحمل الغضب الإلهى ، وليحطم الواحد الآخر ! بمعنى آخر ليست الخطية أمرا عارضا فى حياته ، إنما هى أمر حيوى واساسى ، تشغل كل فكره وأحاسيسه وتملك على قلبه وكل أعضاء جسده ، وتسيطر على تصرفاته الخفية والظاهرة .
ماذا فى داخل الكأس ؟
" هانذا املأ كل سكان هذه الارض والملوك الجالسين لداود على كرسيه والكهنة والانبياء وكل سكان اورشليم سكرا.
واحطمهم الواحد على اخيه الآباء والابناء معا يقول الرب " ع 13 ، 14 .
صار الرؤساء والشعب كزقاق مملوء خمرا ، عوض أن يستخدم للفرح صار للسكر .
لعل أخطر ما فى الأمر أن صار الآباء يسقون أبناءهم مسكرا ، فيقدمون لهم السكر عوض التعقل ، ويفقد الآباء كرامتهم وتعقلهم حتى فى نظر أبناءهم . هذا بالنسبة للسكر بواسطة خمور هذا العالم ، فماذا إن أسكروهم بخمر غضب الله ؟!
كأس التأديب :
" لا أشفق ولا أترآف ولا أرحم من اهلاكهم " ع 14 .
تعثر البعض قائلين : كيف أن الله لا يشفق ولا يرحم ونقول عنه أنه رحوم ؟
[ يجيب العلامة أوريجينوس معلنا أهمية التأديب حتى وإن بدى قاسيا :
إننى آخذ هنا مثلا للقاضى الذى لا يشغل فكره إلا الصالح العام ، وبالتالى يطبق القانون دون إشفاق على المخطىء ، يعاقبه حتى يحمى باقى المجتمع ].
( 3 ) دعوة للتوبة " اسمعوا واصغوا،
لا تتعظموا لان الرب تكلم " ع 15
إذ يتكلم الرب يليق بيهوذا أن يحمل الأذن المختونة ، فيسمع ويصغى لله بروح الطاعة ، لا أن يتجاهل صوت الرب فى كبرياء وعصيان .
لنرى ماذا يوصينا الله أن نفعل :
" اعطوا الرب الهكم مجدا قبل ان يجعل ظلاما وقبلما تعثر ارجلكم على جبال العتمة فتنتظرون نورا " ع 16
يريد أن من يعطى الرب مجدا ، يعطيه فى وجود النور ، لأن مجد الرب لا يمكن أن يعلن حينما يأتى الظلام ...
إذا أردنا أن نمجده فلنمجده بأعمالنا .
مجده بضبط النفس ،
مجده بعمل الخير ، بالحق ، بالشجاعة والصبر والأحتمال ،
مجد الله بالقداسة وكافة الفضائل الأخرى ..
الإنسان البار يمجد الله ، والشرير يهين الله ما هى جبال العتمة التى تعثرت فيها أرجلهم ؟
لقد شبه الله الأشرار بمنطقة الكتان التى فسدت ، وبالزق الممتلىء خمرا ، وهنا يتحدث عنهم كجبال مظلمة .
فى سفر حزقيال يدعو الله شعبه " جبال إسرائيل " الجبال التى بلقائها مع الله استنارت به شعوب العالم ، والآن إذ تعظمت فى عينى نفسها صارت جبالا مظلمة ، لأنها اعتزلت عن سر استنارتها .
تتمثل الجبال المضيئة فى ملائكة الله والقديسين ، والأنبياء ، وموسى " الخادم " ورسل السيد المسيح ، كل هؤلاء الجبال مضيئة ، واعتقد أن هذه هى التى كتب عنها فى المزامير : " أساساته فى الجبال المقدسة " .
بكى إرميا النبى شعبه الذى اختار بكبريائه الظلمة طريقا له ، إذ يقول :
" اعطوا الرب الهكم مجدا قبل ان يجعل ظلاما،
وقبلما تعثر ارجلكم على جبال العتمة ،
فتنتظرون نورا
فيجعله ظل موت ويجعله ظلاما دامسا.
وان لم تسمعوا ذلك فان نفسي تبكي في اماكن مستترة من اجل الكبرياء ،
وتبكي عيني بكاء وتذرف الدموع ،
لانه قد سبي قطيع الرب " ع 16 ، 17 .
يقصد بظل الموت فى العهد القديم الظلام الشديد ، وتترجم أحيانا " الظل العميق " كما فى مز 23 : 4 .
يدخل إرميا إلى أماكن مستترة متضعة ليقدم الدموع من أجل قطيع الرب الساقط تحت سبى إبليس ... إن كان قلبهم قد أصيب بالعمى فلا يدركون أنهم ينحدرون إلى الظلمة ، إذا بقلب إرميا يتمزق حزنا عليهم .
ما هذه الأماكن المستترة إلا أحشاء السيد المسيح محب البشر ، ففيه إذ تدخل النفس لا تكف عن ذرف الدموع من أجل خلاص كل العالم !
أما وقد بكى إرميا بمرارة على قطيع الرب الذى يسقط تحت السبى ، فإنه يقدم مرثاة على الملك الشاب والملكة أمه ، فإنهما لن يخلصان من هذا المر ، ولا يهربان منه .
" قل للملك وللملكة :
اتضعا واجلسا لانه قد هبط عن راسيكما تاج مجدكما ،
اغلقت مدن الجنوب وليس من يفتح.
سبيت يهوذا كلها سبيت بالتمام " ع 18 ، 19 .
يشير العددان 18 ، 19 إلى سبى الملك الشاب يهوياقين إلى بابل عام 598 – 597 ق.م. جاء فى 2 مل 24 : 8 – 17 ومعه أمه الملكة نحوشتا ( 2 مل 24 : 8 ، 15 ) ، حيث عانت يهوذا المتكبرة من صفعة قوية ، وضاع رجاؤها .
جاءت هذه المرثاة قصيرة تناسب الملك الذى لم يدم ملكه سوى ثلاثة شهور . كان فى الثامنة عشرة من عمره عند موت والده يهوياقيم ، ولكن بعد ثلاثة شهور سبى إلى بابل . بعد سنوات ( سنة 562 ق.م. ) حرر لكن لم يسمح له بالعودة إلى بلاده ( 52 : 31 – 34 ، 2 مل 25 : 27 – 30 ) . سقط التاج عن رأسيهما وضاع من بين أيديهما الملك .
واضح هنا أنه كان للملكة الأم دور رئيسى فى إدارة المملكة فى يهوذا ، وكان لها سلطانها فى أيام الملك آسا حتى تخلص منها ( 1 مل 15 : 13 ) .
يصور النبى ما حل بأورشليم بواسطة بابل :
" ارفعوا اعينكم وانظروا المقبلين من الشمال.
اين القطيع الذي أعطي لك غنم مجدك ،
ماذا تقولين حين يعاقبك وقد علّمتهم على نفسك قواد للرياسة ؟
أما تاخذك الاوجاع كامرأة ماخض " ع 20 ، 21 .
بعد تقديمه مرثاة على ما حل بالملك وأمه الملكة بدأ يتحدث عن أورشليم كراعية وحارسة لقطيعها الممجد ، فقد صارت بلا قوة لتحمى شعبها ، قطيع الرب !
يطالبها أن ترفع عينيها لترى أين قطيعها ، فقد أقتيد إلى السبى ، وتركت أورشليم خرابا .
عوض الأهتمام بقطيع الرب أقامت بشرها من البابليين قوادا للرئاسة ، يفترسون حملانها ! صارت كإمرأة ماخض ، عوض أن تلد حملا تحتضنه تلد ذئبا يفترس بنيها !!
( 4 ) ثمار الشر " وان قلت في قلبك :
لماذا اصابتني هذه ؟
لاجل عظمة اثمك هتك ذيلاك وانكشف عنفا عقباك " ع 22 .
الشر ليس من الله ولكن من إرادة الشعب الشرير ، أخطر ما وصل إليه الشعب هو الإصرار على الخطية ! فيشربون الإثم كالماء ، ولا يشعرون بما هم عليه .
بقوله " هتك ذيلاك " يعنى أنها صارت عارية ، وفى ذلك رمز للشهوات الجسدية فى إباحية وبعنف ، حيث تكشف عورتها للشر . كذلك كشف العقب بعنف يرمز إلى الرغبة الشهوانية الجامحة .
يرى البعض أن هذا التصوير يعنى به أن أورشليم صارت كإمرأة فاسدة ، عرت الخطية عورتها وكشفت جسدها فى غير حياء !
فى قولـه : " هل يغير الكوشي جلده او النمر رقطه ؟ ! " ع 23 . يعنى أن ممارسة الخطية إلى فترات طويلة وبصورة جماعية تمثل ضغطا شديدا على الإرادة فتسلبها حريتها ، وتفقدها قدرتها على الأختيار .
والحاجة إلى عون إلهى أو إلى نعمة إلهية لتقديس الإرادة وردها إلى الحرية الداخلية المسلوبة .
إذ بلغوا هذا الحد ، فامتزجت طبيعتهم بطبيعة الشر ، وصارتا كأنهما طبيعة واحدة ، جاء الثمر الطبيعى لذلك وهو : التحطيم !
" فابددهم كقش يعبر مع ريح البرية.
هذه قرعتك النصيب المكيل لك من عندي يقول الرب ،
لانك نسيتني واتكلت على الكذب.
فانا ايضا ارفع ذيليك على وجهك فيرى خزيك.
فسقك وصهيلك ، ورذالة زناك على الآكام ، في الحقل ،
قد رأيت مكرهاتك.
ويل لك يا اورشليم لا تطهرين.
حتى متى بعد " ع 24 – 27 .
يعود فيكرر الله لشعبه أن ما حل بهم ليس محض مصادفة ، ولا لقوة بابل العظيمة ، إنما لشر إرادتهم التى اختارت هذا النصيب .
أخيرا إذ رأى الغزو قد صار على الأبواب صرخ مترجيا توبتهم ، قائلا : " حتى متى بعد؟! " ع 27 .
+ + +
إرميا – الإصحاح الرابع عشر
التأديب بالقحط
والحاجة إلى مياة الروح
يتحدث النبى فى الإصحاحين 14 ، 15 عن قحط طويل الأمد سمح به الرب للتأديب ، مع سقوط تحت السيف والأوبئة والسبى كثمر طبيعى لعصيان الشعب الذى دخل مع الله فى ميثاق ولم يف بتعهده .
( 1 ) القحط ودعاء الشعب " كلمة الرب التى صارت إلى إرميا من جهة القحط " ع 1 .
يتحدث النبى عن قحط يحل بيهوذا كتأديب إلهى ، ويتكرر الأمر فى الإصحاح 17 ، لذا يرى البعض أن النبى نطق بالنبوات الواردة فى هذه الإصحاحات الأربع ( 14 – 17 ) أثناء فترة القحط الذى حل فى أواخر أيام يهوياقيم وفى أيام خليفته .
يظهر من صيغة الجمع فى اللغة العبرية لكلمة " القحط " أن مدة القحط كانت طويلة الأمد كما حدث فى أيام إيليا النبى ( 1 مل 17 ، يع 5 : 17 ) .
جاء وصف القحط هنا يكشف عن حال النفس التى ترفض مياة الروح القدس التى أعلن عنها السيد المسيح : " إن عطش أحد فليقبل إلى ويشرب ، من آمن بى كما قال الكتاب تجرى من بطنه أنهار ماء حى " يو 7 : 37 ، 38 .
قيل هنا :
" ناحت ( جفت ) يهوذا ،
وابوابها ذبلت ،
حزنت الى الارض ( أسودت إلى الأرض ) ،
وصعد عويل اورشليم " ع 2 .
جاء هذا النص فى العبرية فى تسع كلمات قدمت لنا القحط فى أبشع صورة .
أ – الكلمة العبرية الأولى تحمل معنيين : " ناحت " و " وجفت " ، فتظهر مملكة يهوذا كسيدة تنوح بسبب ما حل بها ...
ب – أبوابها ذبلت : أو صارت هزيلة تئن من الضعف الشديد ، لأن شعبها خرج إلى بلاد أخرى يبحثون عن ماء يشربونه أو عن خبز يأكلونه . يقصد بالأبواب هنا مدن يهوذا .
هذا هو حال النفس وقد حرمت من الشبع بكلمة الله ، فهزلت جدا ، وفقدت تقديس حواسها " أبواب النفس والجسد " ، فصارت مفتوحة لكل فكر شرير ونظرة بطالة ، وإحساس فاسد .
جـ - " حزنت إلى الأرض " ، أو بحسب الترجمة الحرفية " أسودت الأرض " ، أى ارتدت ثياب الحداد السوداء الطويلة ( مرا 2 : 10 ) ، فصارت أبواب المدينة أشبه بأشباح خارجة من الجحيم ! صارت أبواب صهيون ، ليست أبواب ملكوت الله المفرح ، بل أبواب الجحيم ، حيث العويل غير المنقطع ..
هذا العويل هو مزيج من الصرخات المرة بسبب الحرمان من الشراب والطعام ، والصراخ إلى الله ليخلصهم من هذه الكارثة ، لكنها صرخات صلاة غير مقبولة ، لأنهم لا يهتمون بخلاص أنفسهم إنما يطلبون المطر .
" واشرافهم ارسلوا اصاغرهم للماء.
أتوا الى الاجباب فلم يجدوا ماء ،
رجعوا بآنيتهم فارغة ،
خزوا وخجلوا وغطوا رؤوسهم " ع 3 .
حل بهم العار ، الذين كانت مخازنهم لا تفرغ من الخيرات وآنيتهم من الخمر .. الآن لا يجدون كوب ماء !
يشعرون ان بركة الرب إلههم قد فارقتهم ، وأنه قد بدأت سلسلة من الكوارث لا يعرف نهايتها . ولعلهم صاروا فى خزى لأنهم شعروا بضرورة الإنسحاب من العالم الذى لم يعد يقدم لهم الحياة بل الموت جوعا وعطشا !
أما تغطية الرأس ( ع 3 ، 4 ) فعلامة على الرعب والحزن ، كما فعل داود حين هرب من وجه أبشالوم ( 2 صم 15 : 30 ) .
" من اجل ان الارض قد تشققت ،
لانه لم يكن مطر على الارض ،
خزي الفلاحون.غطوا رؤوسهم " ع 4 .
صارت أرض الموعد التى تفيض عسلا ولبنا جافة ومشققة ، تكشف عن رؤوس سكانها التى صارت جامدة كالنحاس والحديد ، إذ قيل " وتكون سماؤك التى فوق رأسك نحاسا ، والأرض التى تحتك حديدا " تث 28 : 23 . هكذا يتحول الإنسان بكليته كما إلى أرض حديدية لا تقدم ثمرا ، وبلا حياة !
إذ نشعر بالحاجة إلى المياة نتطلع إلى عمل الروح القدس خاصة فى مياة المعمودية ، لندرك كيف نخرج بها من حالة القفر إلى التمتع بالحياة الفردوسية .
يلاحظ أن كلمة " تشققت " فى العبرية تعنى " ارتعبت " ، وكأن الإنسان سيد الخليقة الأرضية صار فى خزى ، وفقدت الأرض التى يقف عليها اتزانها ، إذ صارت مرتعبة .
يوضح النبى كيف صارت الخليقة كلها تئن وتتوجع بسبب فساد قلب الإنسان وكبرياء قلبه ( رو 8 : 22 ) ، إذ يقول :
" حتى ان الايلة ايضا في الحقل ولدت وتركت ،
لانه لم يكن كلأ.
الفراء وقفت على الهضاب تستنشق الريح مثل بنات آوى.
كلت عيونها لانه ليس عشب " ع 5 ، 6 .
خرجت الحيوانات عن طبيعتها بسبب القحط ، وما حل بها من آلام .
الإيلة تركت الغابات موطن معيشتها ، وذهبت فى حقل مفتوح ، هناك تلد ، لكنها لا تستطيع أن تقدم لبنا لصغيرها ، لأنها لا تجد ما تأكله أو تشربه ... هناك تترك صغيرها فى غير مبالاة لتبحث عن طعام أو شراب .. لقد خرجت عن حنان الأمومة الغريزى .
الفراء أو الحمار الوحشى أيضا لا يعيش إلا فى البرارى ، لكنه الآن انطلق إلى الهضاب العالية لعله يجد هواء رطبا على المرتفعات .
أصاب عيونها الضعف الشديد ، هنا يعنى أن علامة الموت قد ظهرت حتى على العينين اللتين كلتا جدا لتفقدا البصيرة بغير رجعة !
ما أبشع الخطية فى حياة الإنسان المعتزل إلهه مصدر صلاحه وحياته واستنارته !
الآن يقدم النبى صلاة قصيرة أشبه بمرثاة ، من أجل كارثة خاصة بالأمة كلها ، قدمها كشفيع ونائب عن الشعب ، فيها يعترف بخطايا الشعب ، طالبا مراحم الله ، نصها الآتى :
" وان تكن آثامنا تشهد علينا يا رب ،
فاعمل لاجل اسمك.
لان معاصينا كثرت.
اليك اخطأنا.
يا رجاء اسرائيل مخلصه في زمان الضيق ،
لماذا تكون كغريب في الارض ؟!
وكمسافر يميل ليبيت ؟!
لماذا تكون كانسان قد تحير ؟!
كجبار لا يستطيع ان يخلّص ؟!
وانت في وسطنا يا رب ،
وقد دعينا باسمك.
لا تتركنا " ع 7 – 9 .
يعترف إرميا النبى عن خطايا الشعب كأنها خطاياه الشخصية .
بهذا حمل نبوة عن السيد المسيح الذى حمل خطايا العالم على الصليب ، حيث يقول : " إلهى ، إلهى ، لماذا تركتنى ؟! مت 27 : 46 .
هذه مشاعر الحب الحقيقى التى يليق بكل مؤمن أن يتمتع بها ، حيث يتألم مع آلام كل عضو ، مصليا لأجل الآخرين كما لأجل نفسه ، حاسبا سقوط الغير كانه سقوط له . وكما يقول القديس بولس : " أذكروا المقيدين كأنكم مقيدون معهم " عب 13 : 3 .
مرثاة رائعة ، لو أنها قدمت من الشعب لتغير التاريخ كله ، قدمها إرميا عن الشعب ، لكن لم تخرج من أعماق قلب الشعب ، ربما حفظها البعض وكرروها بلسانهم دون قلبهم ... لهذا لم يستجب الرب !
ما نفعها إذن ؟ انتفع بها إرميا نفسه ، وتزكى هو ومن حوله ، كما قدمها مثالا حيا للتوبة عبر الأجيال ينتفع بها الكثيرون .
يبدأ المرثاة بالأعتراف بالخطية ، فإنه إذا ما تمت محاكمة لا حاجة إلى شهود ، فإن آثامنا تشهد ضدنا : أفكارنا وكلماتنا وتصرفاتنا تقف كخصم ضدنا .
جاءت إجابة الرب على المرثاة التى قدمت باسم الشعب :
" هكذا احبوا ان يجولوا.
لم يمنعوا ارجلهم فالرب لم يقبلهم.
الآن يذكر اثمهم ويعاقب خطاياهم.
وقال الرب لي لا تصل لاجل هذا الشعب للخير " ع 10 ، 11 .
نجد حوارا مشابها بين الله والشعب فى الرؤيتين اللتين سجلهما عاموس النبى ( عاموس 7 : 1 – 6 ) ، غير أننا نجد فى عاموس الله يستجيب للصلاة وينزع التأديب ، أما هنا فالتأديب يحل بالشعب والحيوانات ، مع تأكيد حتمية التأديب على المعاصى المرتكبة ( ع 10 ) .
يقول الرب : " هذا الشعب " ، وليس " شعبى " ، إذ ينسحب الله من الإنتساب إليهم ، لأنهم خانوا العهد ، بهذا فقدوا سمتهم كشعب دخل مع الله فى ميثاق ، أى فقدوا حقهم فى الحوار المباشر معهم كطرف فى العهد الإلهى .
" يجولوا " أى يتحركون دون هدف ولا إتزان ، بعيدا عن الله . ظانين أن راحتهم خارج الحب الإلهى .
هنا يعود الله فيكرر طلبته لإرميا للمرة الثالثة ألا يصلى لأجل الشعب كى يرفع الله عنهم التأديب . تكرار الطلب يؤكد أن إرميا لم يكف عن الصلاة من أجل الشعب ، وكأن ما سأله إياه لم يكن أمرا عصاه النبى ، إنما هو إعلان عن عدم استجابة الصلاة فى هذا الأمر ( رفع التأديب ) بالذات .
( 2 ) مسئولية الأنبياء الكذبة " حين يصومون لا اسمع صراخهم ،
وحين يصعدون محرقة وتقدمة لا اقبلهم ،
بل بالسيف والجوع والوبإ انا افنيهم " ع 12 .
ليس فقط يسأل إرميا ألا يصلى لأجلهم ، وإنما يرفض اصوامهم وذبائحهم وتقدماتهم ، لأنهم يقدمونها طلبا للعتق من التأديب ، وليس للألتصاق بالله .
إذ يتحدث إرميا على لسان الشعب يكمل حواره مع الله كمن يعطى عذرا للشعب أنهم خدعوا بواسطة الأنبياء الكذبة .
" فقلت آه ايها السيد الرب.
هوذا الانبياء يقولون لهم :
لا ترون سيفا ولا يكون لكم جوع ،
بل سلاما ثابتا اعطيكم في هذا الموضع.
فقال الرب لي.بالكذب يتنبأ الانبياء باسمي.
لم ارسلهم ولا امرتهم ولا كلمتهم.
برؤيا كاذبة وعرافة وباطل ومكر قلوبهم هم يتنبأون لكم " ع 13 ، 14 .
اتسم هؤلاء الأنبياء بالخداع والكذب ، يخدعون حتى أنفسهم ، فيظنون أفكارهم الخاصة بهم هى إرادة الله .
يتكلم الأنبياء الكذبة بالباطل ، إذ ينطقون بالناعمات لإراحة ضمائر الخطاة . الأول يتحدث بلسان الرب ويعلن بأمانة عن إرادته وخطته وتأديباته ، أما الآخرون فيتكلمون من عندياتهم .
" لذلك هكذا قال الرب عن الانبياء الذين يتنبأون باسمي وانا لم ارسلهم ،
وهم يقولون لا يكون سيف ولا جوع في هذه الارض ،
بالسيف والجوع يفنى اولئك الانبياء.
والشعب الذي يتنبأون له يكون مطروحا في شوارع اورشليم من جرى الجوع والسيف وليس من يدفنهم هم ونساؤهم وبنوهم وبناتهم ،
واسكب عليهم شرهم " ع 15 ، 16 .
أولا : أخطا الأنبياء الكذبة لأنهم يخدعون الآخرين ولو بكلمات معسولة لإراحة ضمائرهم .
ثانيا : يتنبأون باسم الله الذى لم يرسلهم ، فمن جانب يدعون كذبا أنهم مرسلون منه ، ومن جانب آخر ينسبون لله ما يقولونه كذبا .
ثالثا : كلماتهم المعسولة ليس فقط تعجز عن تقديم راحة صادقة للشعب ، وإنما هم أنفسهم أيضا يهلكون .
رابعا : إن كان المنتمون لهم مخدوعين لكنهم ليسوا أبرياء ، لأن الله أرسل لهم أنبياء يشهدون للحق الإلهى ، فهم بلا عذر . لقد قبلوا وهم عميان أن يقتادهم عميان ، فسقط الكل فى حفرة التأديب الإلهى .
خامسا : لا يقف التأديب عند الأنبياء الكذبة والشعب ، لكن حتى المدينة المقدسة تتنجس بجثث الموتى الملقاة فى شوارعها بلا دفن .
سادسا : الهلاك على مستوى أسرى ، فالتأديب يلحق بالرجل كما بالمرأة وبالوالدين كما بالأبناء .
( 3 ) حوار بين الله والنبى فى الحوار بين الله والنبى إرميا بخصوص ما يحل بالشعب من تأديبات بسبب شرورهم نلاحظ الآتى :
أولا : ليس فقط الخليقة تئن بسبب القحط ، وإنما يشاركها إرميا النبى نفسه ، ليس حزنا على الخسائر المادية ، وإنما على ما بلغه الشعب من قحط روحى من جهة كلمة الله وقبول إرادته .
" وتقول لهم هذه الكلمة :
لتذرف عيناي دموعا ليلا ونهارا ولا تكفا ،
لان العذراء بنت شعبي سحقت سحقا عظيما بضربة موجعة جدا " ع 17 .
أمر الله إرميا أن يكف عن الصلاة من أجل الشعب بخصوص رفع التأديب عنهم ، لكننا لم نسمعه يأمره بالكف عن البكاء من أجلهم ، بل بالعكس نراه هنا يطلب من إرميا أن يكون بكاؤه علانية ، وأن يعلن للشعب أنه لن يتوقف عن البكاء ليلا ونهارا ، بكاء من يئن لأجل عذرائه الوحيدة المنسحقة جدا بضربة مرة للغاية . كأن الله يعتز بهذه الدموع ، لأنها تعبر عن المشاعر الإلهية خلال نبيه ، فهو وإن أدب لا يطلب لشعبه السحق العظيم بل الفرح المجيد بالتوبة والرجوع إليه .
لا يكفى أن نبكى أحباءنا ، بل أن نصلى حتى فى الخفاء بدموع عنهم ، هذا أعظم وأثمن فى عينى الله !
ثانيا : هلاك عام فى الحقول كما فى المدن ، بين الشعب كما بين الأنبياء الكذبة .
" اذا خرجت الى الحقل فاذا القتلى بالسيف ،
واذا دخلت المدينة فاذا المرضى بالجوع ،
لان النبي والكاهن كليهما يطوفان في الارض ولا يعرفان شيئا " ع 18 .
وكما جاء فى تث 28 : 6 : " ملعونا تكون فى المدينة ، وملعونا تكون فى الحقل " .
يرى البعض فى عبارة " النبى والكاهن كليهما يطوفان فى الأرض ولا يعرفان شيئا " أنها تحققت بسبى يهوذا حيث أقتيد الأنبياء والكهنة إلى أرض لا يعرفون عنها شيئا .
ثالثا : اكتشاف الرجاء الباطل الذى قدمه الأنبياء الكذبة بروح الخداع .
" هل رفضت يهوذا رفضا ؟!
او كرهت نفسك صهيون ؟!
لماذا ضربتنا ولا شفاء لنا ؟!
انتظرنا السلام فلم يكن خير ،
وزمان الشفاء فاذا رعب " ع 19 .
كنائب عن الشعب الذى أعماه الأنبياء الكذبة بخداعاتهم يحاور الله متعجبا كيف يرفض الله يهوذا ، وتكره نفسه صهيون ، ويضرب بلا شفاء ، ينزع السلام ويسمح لهم بالرعب . كانت فتاوى الأنبياء الكذبة تؤكد ليهوذا أنه ليس من ضربات بلا شفاء ! ولا من رعب ، بل صحة وسلام ! لأنها تضم السبط الملوكى وتحتضن أورشليم مدينة الله حيث الهيكل والعبادة القانونية ، وأن الضربات ستحل بإسراشيل ( العشرة أسباط ) فقط !
رابعا : يستدر إرميا النبى مراحم الله ، معترفا بخطاياهم وخطايا آبائهم كأنها خطاياه الشخصية ، إذ يقول :
" قد عرفنا يا رب شرنا اثم آبائنا لاننا قد اخطأنا اليك " ع 20 .
عندما يشير إلى آثام الآباء لا يعنى أن الإنسان يجنى ثمرة آثامهم ، إنما هنا تأكيد أن الخطية متأصلة فيهم عبر الأجيال ، وأنه توجد خطايا جماعية عاش الكل فيها جيلا بعد جيل .
يتوسل إرميا إلى الله ، ليس متكلا على بر ذاتى ، ولا على عبادة ما ، وإنما على الآتى :
أ – لأجل اسم الله القدوس
" لا ترفض لاجل اسمك " ع 21 .
حينما يذكر اسم الله يعنى به الله نفسه .
ب – لأجل كرسى مجده :
" لا تهن كرسي مجدك " ع 21 .
كرسى مجد الله هو السماء كما جاء فى إش 66 : 1 ، غير أن النبى يدرك أن الله يريد أن يقيم ملكوته فى صهيون الروحية ، فى وسط شعبه حين يتقدس ، فيقال : " الله جلس على كرسى قدسه " مز 47 : 8 . ويجلس الله فى النفس المقدسة كما فى عرشه .
جـ - من أجل الميثاق الذى أقامه الله مع شعبه :
" أذكر . لا تنقض عهدك معنا " ع 21 .
د – لأنه الخالق وحده :
" هل يوجد في اباطيل الامم من يمطر ؟!
او هل تعطي السموات وابلا ؟!
أما انت هو الرب الهنا ؟!
فنرجوك لانك انت صنعت كل هذه " ع 22 .
إن كان الله قد سمح بالجفاف فهو واهب المطر ، ليس من يقدر أن يخلصهم من القحط إلا الخالق نفسه .
وكما يقول زكريا النبى : " اطلبوا من الرب المطر فى أوان المطر المتأخر ، فيصنع الرب بروقا ويعطيهم مطر الوبل " زك 10 : 1 .
+ + +
| |
|